مسامرتي مع الله – الله بين التعالي والذهن الإنساني (1)




مدخل:
كنا مجموعة مما يطلق عليهم المثقفين نتجادل في أمور الحياة والفكر والفلسفة، وكان السؤال هو هل توجد فلسفة خارج إطار الفكر الغربي من أفلاطون مرورا بديكارت وانتهاء بفرانسيس فوكوياما؟. حاولت ان أتجاوز مبدأ السؤال إلى فعل حقيقي، فقلت: اذا أردنا ان نبدأ بفلسفة حقيقية خارج إطار الفكر الغربي فعلينا أولا ان نجاوب على سؤال من هو الله؟ فذلك السؤال مرتبط بكل أجزاء الفكر الأخرى وتحديدا داخل واقعنا السوداني وهو هاجس كل نخبوي حقيقي يبحث عن إجابات عن من هو الإنسان السوداني؟ وهو البداية الصحيحة لإجابات أكثر دقة عن الواقع وعن الإنسان السوداني، فهذه هي الفلسفة. فقال احدهم أعوذ بالله، وقال الثاني أنت داير الله يخسف بينا الواطة)، واخذ الثالث مقعده بعيدا حتى لا يحسبه الله من الأنجاس. وانفض سامر الجمع وأصبحت وحيدا أتسامر مع الله.

الله في الذهن الإنساني:
ارتبط مفهوم الإله في التاريخ الإنساني بالإله الفاعل أو الإله السيد الذي لا تحد قدرته حدود والذي يتجلي فعله داخل الحياة الإنسانية ولكن دون ان ترتبط تلك الأفعال بأسباب محددة ولذلك ظل الإله وفعله خارج إمكانية الاستيعاب الإنساني، فلا يمكننا معرفة الإله في ذاته ولا يمكننا إدراك أسباب تلك الأفعال ونتيجة لاستسلام النخب لذلك الوعي المجتمعي التاريخي عن الإله ابتعدت النخب عن إيجاد تصور للإله داخل الذهن الإنساني أو طريقة فعله واكتفت بالتسليم للوعي المجتمعي أو الدفاع عنه أو رفض مناقشة الفكرة من جذورها أو اتخاذ جانب الحياد عن تلك الأسئلة. واستمرت تلك الحالة التاريخية إلى الآن رغم كل الرسالات الإرشادية التي حاولت تقريب الوعي الإنساني من مفهوم الإله وفعله.
وذكرنا في مقالات سابقة ان الخوف من الإله الذي نجده في الحالة السابقة لتلك النخب تولد مع المجتمعات الأولي نتيجة لقصور استيعاب تلك المجتمعات لما حولها من الطبيعة، فعندما وجدت تلك المجتمعات ان الطبيعة تثور من حولها فجاءه دون استيعاب لأسباب تلك الثورة وهنالك حيوان مفترس وأخر غير مفترس وغيره، ارجع تلك المتغيرات إلى قوى خفية خلف كل ذلك تحركها ضده نتيجة لسبب لم يدركه، فسعي إلى إرضاء تلك القوى بشتى السبل، ولم يرى من جانب تلك القوى التي أصبحت فيما بعد اله غير جانب ذلك العنف، فأصبح مفهوم الخوف مرتبط بالإله، فيجب ان تخاف الإله حتى اذا لم تكن تدركه وهو ما ورثناه من تلك المجتمعات الأولى. وظل باستمرار الجانب المخيف من الإله حاضرا في الذهن الإنساني وهنالك دائما أمثلة لمن بطش بهم الإله حاضرة داخل الوعي المجتمعي، اما ان يكون الإله لطيفا أو ودودا أو ان نتسامر مع الله فذلك ما لا تستطيع الإنسانية استيعابه نتيجة لترميز الإله داخل حقل الجبار والقاهر.

الرسالات السماوية والإله:
الرسالة الموسوية والمحمدية:
تمثل تلك الرسالات أخر الرسالات الإرشادية من الإله للإنسانية وهي تغني عن الرسالات التي سبقتها من حيث مفهوم الإله والإنسانية، ورغم التحولات الكثيرة التي حدثت للإنسانية وإمكانية استيعابها لكثير من علاقات التكامل بين الإنسان والإنسان، والإنسان والطبيعة بعيدا عن الفعل الإلهي، ولكن كل ذلك لم يترسخ كوعي داخل الرؤية الكلية التي تقود الإنسانية بحيث تفصل بين الفعل الإلهي والفعل الإنساني، ولذلك ظل الإله الفاعل أو الإله السيد كما هو داخل الوعي الإنساني يمارس فعله من خلال الطبيعة، ومع التحولات امتد الفعل الإلهي ليكون داخل الفعل الإنساني، وكل ذلك نتيجة لعدم إدراك مفهوم الله المتعالي وكذلك تموضع الإله داخل مركز الفعل  في الحياة الإنسانية.
اذا استمر الوعي المجمعي السائد منذ الإنسان الأول عن الإله الفاعل أو الإله السيد الذي يجب ان يخافه الجميع ومحاولة استرضاءه باختلاف الأشكال اذا كان من خلال قرابين كما فعلت المجتمعات السابقة او من خلال العبادات كما تفعل مجتمعات الرسالات السماوية، فهي تمارس تلك الطقوس بهدف استرضاء الإله السيد فقط وتجنب غضبه.

فالرسالات الإرشادية لم تؤدي إلى استيعاب الإله ولكنها ساهمت في إزاحة تعدد الالهه فقط، فاستمر الوعي بالإله الفاعل في الرسالة العربية والرسالة اليهودية (المحمدية والموسوية)، فإذا كان اله التعاليم في الرسالة اليهودية او اله الحلال والحرام في الرسالة المحمدية فهو اله واحد، فهو عبارة عن سيد يجب ان يطاع ويجب على الجميع ان يخافه وان يعبده بخوف ورهبة. وهنا نحن لا نتحدث عن تفاصيل الرسالات التي نجد بها بعض الاختلاف في التعاليم أو في الحلال والحرام ولكننا نتحدث عن التصور الكلي لله، فعندما نصل إلى تلك المرحلة لا نجد اختلاف كثيرا، فالرسالات الإلهية في الذهنية اليهودية نجدها فقط أوضح في امتلاك الإله السيد للقيم الإنسانية من غضب ولهو وغيره، غير ذلك تتفق الرسالة اليهودية مع العربية في ان الإله هو الإله السيد وان رسالاته عبارة عن رسالات محملة بالقيم والتعاليم وهي رسالات مقدسة باعتبار ان الإله قد نطق من خلالها، وان القيام بتلك القيم الواردة في الرسالة يؤدي إلى إرضاء الإله وتجنب عقابه.
وقد أغلق باب الاستيعاب لمفهوم الإله على ذلك، فعندما نحاول إعادة استيعاب مفهوم الإله وتحديدا في السودان المشبع بالفكر العربي وتحديدا مجتمع التحولات والمنوط به قيادة كل المجمعات السودانية نحو بوتقة السودانوية، فعند طرح سؤال مباشر عن من هو الله كصورة في الذهن الإنساني يهرب الكثيرين لتواجه الوعي المجتمعي وحيدا.

الرسالة العيسوية (المسيحية):
تختلف الرسالة المسيحية عن الرسالتين السابقتين في المقدار فقط وليس اختلاف جذري، فاستمر مفهوم الإله الفاعل كما هو ولكنه منح تلك المقدرة إلى الإنسانية لتستغلها في الخير فقط ومواجهة شرور النفس وضلالها كما يقول المسيحيون، فكان لنبي الله عيسي الذي كان نصفه إنسان والنصف الأخر اله كما نجد في الذهن المسيحي المقدرة في الغفران وإعادة الإنسان إلى الطريق القويم.
فتختلف الرسالة المسيحية فقط باعتبارها رسالة تصحيحية لرسالة أخرى وليست رسالة قائمة بذاتها، ولذلك ركزت على جوانب قصور الاستيعاب من قبل النخب اليهودية للرسالات التي سبقتها وأخرها الرسالة الموسوية، ولكن نجدها عندما خرجت من مجتمعها الحقيقي وهو المجتمع اليهودي نتيجة لرفضه وتحولها إلى مجتمعات أخرى أصبغت تلك المجتمعات على الرسالة وعيها التاريخي وتم تدوينها باعتبارها رسالة كاملة وليست رسالة تصحيحية، ففرض الوعي المجتمعي وتحديدا بعد انتقال الرسالة إلى المجتمعات الغربية رؤيته التاريخية المستمدة من وعيه الذاتي وإعادة استيعاب المسيحية بناء على ذلك الوعي.

فالرسالة المسيحية هي رسالة تصحيحية وليست رسالة قائمة بذاتها ولم تأتي للمجتمع والغربي في الأساس ولم تحاوره من داخله حتى تزيل قصور الاستيعاب، ولذلك نجد اثر التحولات الاجتماعية داخل الرسالة المسيحية والمنتقلة له من الوعي التاريخي للمجتمع الغربي، فبوصول المجتمعات الغربية إلى مرحلة التحولات الثقافية وتلاشي المرحلة القبلية احتاج فرد تلك الثقافة إلى دين لا يلغي ثقافته وقيمه التاريخية ويستطيع ان يتقبله كما هو، وكذلك احتاج إلى ترميز لذاته الكلية، فاصبغ على المسيحية قيمه وتحولاته وأصبح المسيح يعبر عن الذات الكلية لذلك الإنسان الذي يتلاقي عنده كل أفراد المجتمع. وأصبح المجتمع الغربي قوة دفع للرسالة بعد تبنيها وسعي لنشرها في كل المجتمعات باعتبارها دين وليست باعتبارها إعادة استيعاب لرسالة تصحيحية.
فإذا نظرنا مليا إلى الرسالة المسيحية وتحديدا في موضوع الإله نجدها متأخرة عن الرسالة الموسوية والرسالة المحمدية بامتداد القدرة الإلهية إلى المسيح وهو ما يحيلنا إلى مجتمعات سابقة على الرسالة الموسوية والرسالة المحمدية تاريخيا حيث كان هنالك تعدد للإله أو امتداد للإله. ويرجع ذلك كما ذكرنا إلى ان الرسالة المسيحية ليست رسالة للمجتمعات الغربية وبالتالي لم تحاور تلك الرسالة ذلك المجتمع من اجل إزالة قصور الاستيعاب وتحديدا في موضوع الإله الذي تركز عليه الرسالات كثيرا، فاعتبار المسيح كرب أو امتداد للرب هو ما أصبغته المجتمعات على مفهوم الإله كما أصبغت الرسالة المسيحية بكل وعيها وتحولاتها التاريخية.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الرسالات الإرشادية بعيدا عن التدوين العربي (2)

من الانتفاضة إلى الثورة السودانية (1)