وما أدراك ما الخطاب الديني


 

نقد الخطاب الديني:

عندما تعترى المجتمعات العربية الإسلامية بعض الأزمات إلا ونجد جزء من النخب تتحدث عن نقد الخطاب الديني أو غيرها من المفاهيم التي تدعو إلى موائمة ما يسمي بالدين مع ما يحدث في الواقع. وللأسف لا يتبع ذلك اختراق حقيقي لحقل ما يسمي بالدين من اجل تقديم الدين في شكل مختلف عن ما هو شائع، فما يحدث هو توجيه سهام النقد إلى مناطق محددة، ونجد ذلك مثلا في الرسالة المحمدية في توجيه سهام النقد إلى الشريعة أو العلاقة مع الآخر غير المسلم أو الكافر في عرف الخطاب الديني السائد أو شكل الحكم، ويأتي ذلك النقد دون إدراك ان كل الخطاب الديني ومن ضمنه الخطاب العربي هو جزء من خطاب فلسفي كامل اذا كان في الرسالات اليهودية أو الرسالة العربية المحمدية. فليس الحاجة إلى إعادة تصحيح مسار الخطاب الديني في الرسالات اليهودية والعربية كما يعتقد البعض، ولكن آن الأوان لقراءة ذلك الخطاب وفق رؤية جديدة كاملة.

 

إعادة استيعاب الرسالات الإلهية:

ولاستيعاب تلك الرسالات على أسس جديدة لابد إذا من إعادة تعريف ماهية تلك الرسالات وغايتها:

 

مفهوم الإلوهية:

ان الإله هو خالق الكون والإنسانية وفق أسس محددة وهو واحد يتعالي عن كل ما هو أنساني وطبيعي.

 

الرسل:

يمثل الرسل أعلى النخب لمجتمعاتها ولا توجد صلة مباشرة بين الرسل والإله ماعدا الإرشاد الإلهي، ولا يمثلون الرسالة في ذاتهم أو في سلوكهم ولكن يمثلون استيعابهم النخبوي.

 

أدوات الرسالة:

اختلفت الرسالات الإلهية في أدواتها واتفقت في جوهرها، ولذلك نجد بعض الاختلاف في أدوات الرسالة فمن الرسل من منح قدرة خاصة من اجل الرسالة ومنهم من منح قدرة ونصوص لتوصيل الرسالة ومنهم من منح نصوص فقط مثل الرسالة الخاتمة، فاختلاف تلك الأدوات لا يعني ان الرسل اختلفوا في جوهرهم عن أنهم بشر، فلم تمثل تلك الأدوات جزء من ذاتهم الشخصية ولكنها كانت تتبع للرسالة ولم تغير من بشريتهم، وبالتالي لا تمثل أدوات الرسالة جزء من شخصيات الرسل حتى نضيفها إلى ذاتهم الإنسانية، ولكن عند محاولة استيعابها يجب ردها إلى أساسها كجزء من الرسالة وليس ردها إلى الرسل الذين هم بشر فقط تسعي إلى استيعاب الرسالة وتوصيلها حسب إدراكهم وزمانهم.

 

ماهية الرسالات:

ان كل الرسالات الإلهية هي رسالات إرشادية وهي رسالة واحدة كاملة تدعو إلى استيعاب الإله المتعالي والإنسانية والطبيعة، وتختلف طريقة الاستيعاب لتلك الرسالة باختلاف المجتمعات وباختلاف تحولاتهم الاجتماعية، فليست هنالك رسالة كاملة وأخرى ناقصة وثالثة محرفة، فكل الرسالات الإلهية كرسالات إرشادية هي رسالات كاملة ولكن يرجع القصور إلى الاستيعاب الإنساني.

 

فإذا ضربنا مثلا بالمصحف العثماني لإدراك معني الكمال، وسألنا هل المصحف العثماني كامل؟ هنا سنجد اثنين من الكمال وهو الكمال الإنساني والكمال الإلهي، فهل حوي المصحف العثماني كل الإرشاد الوارد من الله في شكل آيات أي علامات وإشارات للإنسانية من اجل الاستيعاب، وهو كمال إنساني بحيث يجب إعادة السؤال كما يجب ان يكون في هل دونت الإنسانية كل الإرشاد الوارد من الله إلى الإنسانية، وهنا يمكننا ببساطة ان نقول لا، ويمكن ان نتأكد من ذلك بالرجوع إلى تاريخ تدوين المصحف العثماني ومن ضمنها الدراسة الرائعة لـ محمد عابد الجابري (محمد عابد الجابري..مدخل إلى القرآن..الجزء الأول..فى التعريف بالقران)، اما الكمال الإلهي فسيكون في سؤال هل الرسالة العربية أو الرسالات اليهودية كاملة بحيث أرشدت الإنسانية إلى مغزى الحياة والإله المتعالي؟ يمكننا بوضوح الإجابة بنعم، فرغم ضعف استيعاب تلك الرسالات من جانب النخب إلا انها لازالت تعطي المجتمعات الدفعات اللازمة لمسيرة الحياة الإنسانية، فالقصور اذا الذي يحدث لا ينبع من جانب الرسالات الإرشادية ولكن ينبع من جانب النخب التي ادلجتها ورفضت إعادة استيعابها من جديد، فبحث الإنسانية عن كمال مطلق داخل حياتها الإنسانية من قيم وعادات هو ما يؤخر إدراك ان الإنسانية لا تتكامل إلا مع بعضها البعض ومع الطبيعة.

 

غاية الرسالات الإلهية:

تهدف الرسالات إلى إرشاد الإنسان إلى ذاته ومغزى الحياة والى علاقته مع الذات الكلية وتكامله مع الطبيعة وعند وصول الإنسانية إلى ذلك الإدراك سندرك الإله المتعالي، فلا تدعو الرسالات إلى الإيمان بالله كغاية أو عبادة الله ولكن غاية الرسالات هي ان يؤمن الإنسان بنفسه وبجوهره وان يدرك ذاته وقدرته على الفعل، فلا يحتاج الله إلى إيمان الإنسانية ولا يسعي لها ولكن يسعي إلى ان تدرك الإنسانية مقدرتها وحقيقتها. اذا فمقولة الفكر الديني عموما على ان الرسالات عبارة عن دعوة لمعرفة الإله وعبادته هي محاولة من ذلك الفكر للتماهي مع المطلق، فلن تصل الإنسانية إلى إدراك حقيقة الذات الإلهية، ولكن أقصى ما تستطيع ان تدركه هو ذاتها وتكاملها ففي ذلك الإدراك إيمان بالإله المتعالي وعبادته، مهما كانت طريقة ذلك الإيمان وشكل العبادة السلوكية فهي في الآخر تحيل إلى اله متعالي.

 

الإيمان جوهر الرسالات الإلهية:

 

استخدم الإرشاد الإلهي لمفهوم الإسلام كجوهر لكل رسالاته الإرشادية والتي تصل بالإنسان عند استيعابها إلى حالة من السلم والأمن والطمأنينة، ولكن في الرسالة الخاتمة وعندما بدأت العرب تبدل جوهر الرسالة بمظهرها وتتمسك بالقيم الإنسانية كبديل عن الإرشاد الإلهي، وأصبح الإسلام يمثل قيم وعادات الإنسان العربي في تلك المرحلة دون إدراك لحقيقة الإرشاد الإلهي الذي يأتي بمفاهيم مجردة وليس قيم وعادات إنسانية. عندما وجدت الرسالة بداية ذلك القصور في الاستيعاب تحولت من لفظ الإسلام إلى لفظ الإيمان الذي أصبح منذ ذلك الوقت يمثل جوهر الرسالات الإلهية كبديل عن لفظ الإسلام (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)).

 

فالإيمان يشمل كل من توصل، وفق أي طريقة كانت، إلى استيعاب مغزى الإنسانية وعلاقة التكامل الناتجة بينها أو بينها وبين الطبيعة واستيعاب مفهوم الإله المتعالي، فالعلاقة بين جوهر الرسالة والقيم الإنسانية وتحديدا القيم السلوكية هي علاقة تتحدد بزمانها، فمع التحولات الإنسانية يختلف تعريف ومعني الإنسانية وبالتالي يختلف السلوك المعبر عن ذلك المعني ولكن يبقي جوهر الإنسانية ثابت لا يتغير، فكل ما يعبر عن الإنسانية في فترة ما يعبر عن استيعاب للإرشاد الإلهي ولو جاء من خارج الإرشاد. اما التشبث بقيم سلوكية محددة باعتبارها تتطابق مع المطلق الإلهي هي محاولات لا شعورية عند الإنسانية للوصول إلى مرحلة الثبات النهائي التي يتمتع بها الله فقط.

إذا الإيمان لا يقتصر على رسالة محددة بل يشمل كل الرسالات الإرشادية إذا توصل أي فرد من أفرادها إلى إدراك الحقيقة الإنسانية وكذلك يمكن للإيمان ان يستوعب من هم خارج الإرشاد الإلهي الذين توصلوا إلى ذلك الإدراك من خلال وعيهم فقط، فلا يمثل الايمان بديل عن الحقيقة الإنسانية في تحولاتها وفي كيفية انتاج سلوكها، فالمؤمنين ليسوا امة مشتركة القيم والسلوك والكن المؤمنين هم من استوعبوا لمعني الإرشاد الإلهي المجرد وطبقوه فيما بينهم من خلال قيمهم وسلوكهم التي تتوافق مع مرحلة التحولات التي توجد بها مجتمعاتهم. فالرسالات ترشد فقط وعلى الإنسانية استيعاب ذلك الإرشاد وفق تحولاتهم ومجتمعاتهم الذاتية.

ولا يسعي الإيمان إلى نفي الآخر من الحياة، ففي عرف الإيمان ان غير المؤمن في حاجة إلى مجهود أكثر من اجل استيعاب الإرشاد الإلهي لفائدته الإنسانية، ويجب التواصل مع كل آخر إنساني اذا كان مؤمن أو غيره، اما الآخر الضد الذي لك الحق في محاربته فهو الآخر الذي يسعي إلى مصادرة حق الفرد في الحياة نتيجة لاختلافه فقط.

 

خاتمة:

لا وجود لما يسمي بالخطاب الديني خارج الرؤية الكلية التي تواضعت عليها النخب والمجتمعات، ولذلك التعامل مع الخطاب الديني كجزئية مستقلة هو ما يبعد النخب عن إدراك حقيقة الخطاب الديني وعلاقته بتلك الرؤية. فنقد الخطاب الديني يمثل اذا نقد لرؤية إنسانية وليس لخطاب الهي مستقل عن الإنسانية، وعند إدراكنا لذلك يمكننا عندها ان نستوعب ان مفاهيم الإلوهية والدين وغيرها هي مفاهيم إنسانية قابلة للحوار دون اقتتال. فلا وجود لقيمة إلهية داخل الحياة الإنسانية خلاف الإرشاد الإلهي الذي لا يمكن استيعابه بعيدا عن الواقع الإنساني. فلا يغير الإرشاد من حقيقتك الإنسانية أو الاجتماعية ولكنه يساعد على استيعاب تلك الحقيقة وتقبلها والمساهمة بها.

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الرسالات الإرشادية بعيدا عن التدوين العربي (2)

من الانتفاضة إلى الثورة السودانية (1)