الدولة السودانية من المهدية الأولى إلى المهدية الثانية بين التعددية والسودانوية (1)



مفهوم الدولة:
ان البحث في مفهوم الدولة بصورته الحالية يرجع إلى الثقافة الغربية وتحولاتها الاجتماعية، ولذلك جاء مفهوم الدولة كجزء من تجليات الاستيعاب الثقافي للمجتمع الغربي والذي ينعكس كسلوك محدد داخل المنظومة الكلية للمجتمع، وتقوم الدولة في الأساس على مفهوم الانا  في مقابل الاخر، وهو ما يدفع إلى وجود تماهي وشعور عام بين الذات الاجتماعية المعرفة للدولة بين جميع افراد المجتمع مما يتبع ذلك تكامل للادوار بينهم ويوحد رؤيتهم وتقبلهم للذات وسلوكهم نحو والاخر.
بناء على واقع التحولات للثقافة الاوربية وانعدام وجود كلية تجسد الانتماء الفردي بعد تجاوز كل مراحل التحولات التاريخية القبلية والاهلية فقد لجأت النخب الاوربية إلى صياغة مفهوم الدولة كصدي للوعي الجيني والذي يتجسد كسلوك داخل المجتمعات ثم دونت ذلك السلوك كمفاهيم لتعبر عن الكلية النخبوية، ولذلك قام تعريف الدولة في الفكر النخبوي الغربي على الفردية البحتة وترك الشعور العام (الوعي الجيني) للمجتمع الغربي الذي يتحكم في قيم الدولة، فكان تماهي الإنسان الغربي مع المجتمع التخيلي (الدولة) لاعمال التكامل من خلال تنظيم ذلك الوعي بناء على القيم المادية التي تم اعلائها كمقياس للإنسانية وترك الشعور الإنساني (الوعي الجيني) للذات الاجتماعية الاوربية ليتحدد (الشعور أو الإحساس أو الانتماء) من داخل الفرد ومرحلة تحولاته الاجتماعية وتماهيه مع الكلية والنموذج الذي يقتدي به، مما سهل تعريف الدولة بتعريف افرادها وقياسهم من خلال القياس المادي، فالدولة اذن في الفكر الغربي تتمثل في إنسانية افرادها ومن هنا جاءت وظيفة الدولة تجاه افرادها التي تحددت أكثر مع الزمن بصورة أكثر دقة، ولذلك أصبحت القيم الفردية أو ما يسمي بقيم الوجود سابقة على الماهية في عرف الدولة أي لا تخضع للمساومة الدستورية أو الاستفتاء كما يحدث في الدول الأخرى ومن ضمنها السودان فقيم الحياة للشخص لا تخضع لمساومة عرقية أو دينية حتى تتبناها الدولة، ولكن بالمقابل دخلت قيم أخرى في مجال غير المفكر به داخل الثقافة الغربية بناء على مرحلة تحولاتها تلك وهي قيم الاستيعاب للكلية القيمية والارشاد وقيم التكامل مع المجتمع الحقيقي للفرد في مقابل المجتمع التخيلي (الدولة)، فاصبح الفرد الغربي يدور حول ذاته ويمارس حياته بناء على الوعي الجيني (الشعور/الإحساس)، اما الدولة في الشعور (الوعي الجيني) فهي التي تتبني قيم وعادات وسلوك الإنسان الاوربي في قمة تحولاته، ولذلك تجد الدولة كفكر هي دولة تقوم على الفردية الكاملة أي ما يرتضيه الفرد لنفسه اما الدولة كشعور (الوعي الجيني) فهي تقوم على جميع المحددات السلوكية للإنسان الأوربي إذا كان في اعلاء شان الاسرة كنواة حقيقية للمجتمع أو الديانة المسيحية أو غيرها من السلوكيات.

التعددية:
لقد مرر الفكر الغربي مفهوم الدولة كفكر نخبوي يخضع للفردية الكاملة دون تمرير مفهوم الدولة كشعور اجتماعي (الوعي الجيني)، ولذلك أصبحت الدولة عبارة عن افراد فقط دون رابط داخلي يجمعهم، وقد تم اخذ ذلك المفهوم كما هو من قبل نخب المجتمعات الأخرى التي حاولت ان تلونه قدر استطاعتها بقيمها الداخلية، ومن هنا جاء مفهوم التعددية فلقد نظرت النخب إلى مجتمعاتها من الخارج فاعطت توصيف فقط لمجتمعاتها دون استيعاب من داخلها، ككلية نخبوية تستوعب الكل الإنساني أو كوعي جيني يحرك تلك الكلية نسبة لاختلاف تحولات تلك المجتمعات عن التحولات في الثقافة الغربية. فانسحبت الدولة (كشعور/احساس) في المجتمعات الأخرى لتكون حارس لمجتمع التحولات الذي في ذاته عبارة عن جزء من المجتمع الكلي للثقافة المعنية ولكن يختلف باختلاف القيم ومراحل التحولات مما ادي إلى عدم وجود محرك حقيقي للدولة بالإضافة للحالة السودانية وهي قيام الفكر العربي كبديل عن الوعي الذاتي مما قاد إلى عدم رؤية الواقع أو استيعابه، وهو ما احال الفكر النخبوي إلى رموز صورية لا تمت إلى الواقع بصلة ولا تؤثر على المجتمعات مما جعل ذلك الفكر يدور حول ذاته وليس حول الواقع لخلوه من تدوين يعتمد على الواقع.

المهدية:
لقد مثل الامام محمد احمد المهدي كنخبوي مركز الاستيعاب للثقافة السودانية في فترته تلك ورغم وعي المهدي بخصوصية السودان إلى انه افتقر إلى تراكم التدوين السوداني الذي يمكن ان يستوعب من خلاله قصور تلك المرحلة وتجاوزها إلى مرحلة أخرى تحمل قيم ومفاهيم تستوعب مرحلة التحولات الانية بالنسبة لمرحلة المهدي التاريخية، ولذلك لجاء إلى التدوين المتاح لاعادة الاستيعاب وهو التدوين العربي الذي ارتكزت عليه النخب من قبله أو بعده وهو ما ادي إلى قصور رؤيته لاستيعاب الواقع، فقد حاول المهدي من خلال مزج التنوعات في التدوين العربي إلى ايجاد كلية يصيغ من خلالها رؤيته التي اكتسبها بين الخلوة والمسيد (فقد كان  المهدي على ثقافة دينية فقهية و(عرفانية) قوية، استمد أقلها من من تعليمه النظامي، وأكثرها من اطلاعه الخاص على فكر حجة الإسلام الإمام أبي حامد الغزالي، (من أهل القرنين الخامس والسادس الهجريين) وخواطر الصوفي الأندلسي ابن عربي الحاتمي (من أهل القرنين السادس والسابع الهجريين) (راجع مقال: قراءة عصرية في منشورات المهدية – بقلم: د. محمد وقيع الله على موقع سودانايل).
ورغم محاولة المهدي على تأكيد الخصوصية السودانية التي حاول استيعابها من داخل التدوين العربي والذي جعله يختط رؤية فقهية تخالف مفاهيم الفقه في الفكر العربي (ولكن كان للمهدي اجتهاده التشريعي الواضح الذي قد يعترض عليه كثير من علماء الشرع. فقد كان يشدد في إنزال العقوبات الشرعية على المخالفين، غير مبال ببيئة الحرب الطاحنة، وظروف العسر المعيشي، التي تستدعي التخفيف والتجاوز في تطبيق الحدود)، ويرجع ذلك إلى محاولة المهدي الدخول إلى الواقع السوداني من خلال التدوين العربي والذي قطع مراحل طويلة في التدوين واختلاف تحولات الثقافة العربية عن الثقافة السودانية. ونتيجة لذلك اصطدمت الدولة المهدية مع المجتمع السوداني لسعيها لتغيير المجتمع ليوازي الفكر ولم تسعي إلى استيعاب المجتمع السوداني كما هو، فكانت الحروب التي خاضها خليفة المهدي (الخليفة عبد الله التعايشي) مع المكونات السودانية (فقد دخلت المهدية فى حروبات داخلية ، منها حربها ضد الاشراف والجعليين والبطاحين والكبابيش ، وحروبها ضد التمردات القبلية فى دارفور وجبال النوبة..) كل ذلك لاعلاء شان المهدية كتفسير وحيد لماهية الثقافة السودانية.
فترة الحكم الانجليزي المصري:
ان الفكر لدي المجتمعات والنخب الغربية يقوم على خلفية تحولاتهم الاجتماعية والتي تتمثل في الفردية الكاملة مقابل الاخر والفردية هنا لا تعني الإنسان الفرد ولكن تعني التماثل، وهذا الفكر هو ما استحضرته عند سعيها لاستيعاب الواقع السوداني ولذلك لم تري الثقافة السودانية ولكن رات مجتمعات شبه متماثلة مما قادها إلى استيعابها بعيدا عن الكلية الثقافية إذا كانت في القبائل أو في قانون المناطق المقفولة أو في الطرق الصوفية والعشائر فقد كانت تستوعب كل تلك الكيانات باعتبارها الذاتي وليس جزء من الثقافة السودانية ولذلك شجعت قانون الادارات الاهلية في مقابل المركزية وقانون المناطق المقفولة باعتبار تلك المناطق كيانات قائمة بذاتها.
اما من جانب مجتمع التحولات ونخبه فقد مثلت فترة الحكم الإنجليزي إعادة اكتشاف للفكر الغربي من خلال افراده الحقيقيين. ولذلك اندفع المجتمع لإعادة اكتشاف الاخر ومحاولة استيعاب الثقافة السودانية من خلال ذلك الفكر وهو ما اثر في فترة ما بعد الاستعمار.

ما بعد الاستعمار واستمرار المهدية:
عاد مفهوم المهدية الذي يعني محاولة استيعاب الثقافة السودانية للظهور مرة أخرى بعد مرحلة الاستعمار ولكن برؤي مختلفة نسبة لاختلاف المجتمعات واختلاف مرحلة التحولات، ولان مفهوم الدولة ارتبط داخل وعي النخب بمجتمع التحولات (مجتمع الوسط) فقد كانت الدولة تخضع لقيم وعادات ذلك المجتمع فما يرفضه مجتمع التحولات هو الذي يرفض وما يثبته هو الذي يستمر ولو خالف الرؤى الفكرية للنخب (ومثال على ذلك من الواقع الراهن تثبيت مجتمع التحولات للفكر الصوفي وكذلك للغناء وغيرها من العادات رغم رفضها "من قبل الفكر الإسلامي في اصوله السنية الوهابية التي يقوم عليها فكر الحركة الإسلامية والاخوان المسلمين في السودان وغيره" وتجريمها وتحريمها وغيره).
اما من جانب النخب مثلت فترة الاستعمار فترة اعادة استيعاب للواقع من خلال رؤيتين ثقافيتين هي الرؤية العربية والرؤية الغربية وهو الذي قاد إلى دخول الفكر الغربي كمنافس قوى للفكر العربي داخل مجتمع التحولات لتفسير السودانوية كل ذلك صب في مرحلة ما بعد الإنجليز والتي أدت إلى تعريف الدولة في مخيلة النخب كدولة مؤسسات بناء على التعريف الغربي للدولة ولكن في الشعور العام أو الوعي الجيني تم تعريفها كدولة لمجتمع التحولات الاجتماعية (مجتمع الوسط) الذي استقطب الدولة لتعبر عن ذاته كمجتمع قائم بذاته وليس كمجتمع تحولات يعبر عن الكل الثقافي. وعند عدم تعبير الدولة (كشعور/احساس) للكل السوداني اخذ الفكر العربي في محاولة ملء المساحة بين الدولة كفكر والدولة (كشعور/احساس) نسبة لوجوده داخل الوعي الجيني لمجتمع التحولات فتمدد الفكر العربي بكل انواعة من الإسلامية إلى العروبية، مما ارجعنا إلى مرحلة المهدية ولكن مع ظهور العروبة كتعريف مرادف للدولة.
ولان الدولة لم تمثل المجتمع الكلي للثقافة السودانية لذلك جاء دستور 56 (والذي كان من المفترض ان يعبر عن الواقع تعبير حقيقي) جاء معبرا عن وعي نخبوي لا يمت إلى الواقع بصلة فقد كانت ورقة الدستور عبارة عن وثيقة تعبر عن مجتمع تخيلي وليس مجتمع واقعي ولذلك ما نجده في وثيقة الدستور نجد خلافه في القانون والواقع وهو ما يناقض مفهوم الدستور كقانون اسمي يعلو على كل قانون ويفترض ان يعرف الدولة بكل سماتها، فتعريف الدولة مثلا في ذلك الدستور جاء تعريف جغرافي فقط لا يري الإنسان أو الثقافة:
(2)  تشمل الأراضي السودانية جميع الأقاليم التي كان يشملها السودان الإنجليزي المصري قبل العمل بهذا الدستور مباشرة.
ونواصل

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الرسالات الإرشادية بعيدا عن التدوين العربي (2)

من الانتفاضة إلى الثورة السودانية (1)