الدولة السودانية من المهدية الأولى إلى المهدية الثانية بين التعددية والسودانوية (2)



الفكر النخبوي السوداني:
ان عدم استيعاب الوعي الجيني (الشعور/ الإحساس) كمحرك داخلي للفكر في كل الثقافات من جانب النخب الفكرية ذهب بالفكر إلى اتجاه انه يتحرك من خلال شروطه الخاصة (العقل والمعقولية) ولا يخضع لشروط الواقع ولذلك تم استيعاب الفكر الغربي بعيدا شروط الواقع والتحولات الغربية أي بعيدا عن الواقع الذي يعطيه الشرعية ويمنحه المصداقية التي هي عبارة عن تقويم لذلك الفكر والتي يحتاجها كرد فعل من المجتمعات حتى لا يصبح عبارة عن هرطقات.
ان استيعاب الفكر الغربي لمفهوم الدولة وغيره من المفاهيم من قبل النخب السودانية قام بعيدا عن تحولاته التاريخية وبيئته الثقافية ولذلك استوعبت النخب السودانية ذلك الفكر دون استيعاب محركه الداخلي المتمثل في الوعي الجيني (الشعور/الإحساس) الذي يمثل واقع ومقياس لذلك الفكر وهو الذي يقود كل ذلك الفكر المختلف إلى ان يصب داخل وعي ثقافي محدد هو ما يحدده الوعي الجيني للثقافة الغربية ومجتمع تحولاتها الأوربي، وبالتالي لم تستوعب النخب السودانية مفهوم الاختلاف الذي يقوم عليه الفكر الغربي، وبالتالي تعاملت النخب السودانية مع الأفكار كقيم مجسمة تمثل الواقع أو الثقافة المعنية وليست محاولة لادراك الواقع مما ادي إلى عدم استيعاب النخب السودانية لبعضها البعض نسبة لاعتبار كل النخب اسلاموية أو عروبية أو تتبع للفكر الغربي انها تمثل السودانوية من داخل ذلك الفكر (الواقع) واصبح كل اصحاب رؤى ينظرون من داخلها باعتبارها تعبر عن الإنسانية السودانوية ويرفضون بالتالي رؤية الاخر ويرفضون اعطائه قيم الانسانية ولذلك اصبح كل من هو خارج الفكر هو اخر وبالتالي هو غير سوداني.
وقد اعتمدت النخب السودانية الفكرية في رؤيتها للإنسانية للذات والاخر إلى اختزال إنسانية الإنسان السوداني وثقافته داخل التدوين العربي أو الغربي بكل انواعه وتجريب ذلك الفكر على الواقع وادخال الثقافة السودانية مرة داخل الرؤية العربية بشقيها العروبية والاسلاموية ومرة أخرى داخل الرؤية الغربية بشقيها ديمقراطية الفرد أو الاشتراكية الشيوعية، وعندما يحدث القصور من جانب الرؤية في استيعاب الواقع السوداني لا تحيل النخب ذلك القصور إلى الفكر ولكن تحيله إلى الواقع، فالواقع اما متخلف لا يتقبل الديمقراطية أو فاسد لا يسلم بالقيم الإلهية.
إلى ان أصبح تعريف الدولة السودانية عبارة عن كيانات متمايزة والتي تمثلت في الدولة المتعددة الأعراق والثقافات والاديان مما يوحي أولا ان ليس هنالك كلية تحتوى تلك الكيانات يمكن ان تعرف من خلالها مما يجعل الدولة في مازق حقيقي فهي دولة متعددة الهويات مما يجعلها في احسن الأحوال محايدة فكريا وسلوكيا (سلبيا) تجاه مجتمعاتها وتجاه الاخر. فهي داخليا لا تمتلك ما تقدمه لمجتمعاتها سوى القيم المادية فلا يمكن ان تعتمد تشريع محدد أو تفاضل بين التشريعات القيمية الا بناء على ما تضيفه من قيم مادية للفرد أو المجتمع المحدد ولا تمتلك رؤية ارشادية للحياة الإنسانية، بالإضافة إلى ذلك فهي خارجيا لا تمتلك ان تقيم تحالفاتها بناء على اسس محددة فداخل التعددية تلك تجد من ينادي بعلاقة استراتيجية مع السعودية ومع ايران ومع امريكا ومع روسيا ومع الصين وغيره، ليس على اساس سودانوي (أي وفق شروط الواقع) ولكن على اساس عقدي واساس مصلحي مادي رغم التقاطعات الكثيرة بينهم. فالتعددية لا تجعلنا نمتلك مقياس أو معيار محدد لرؤية الذات أو الاخر من ناحية كلية.
وظلت النخب السودانية في حالة استيعاب وإعادة استيعاب دائم منذ الاستقلال والى الان للواقع ولكن من خلال شروط الرؤية العربية والغربية وذلك من خلال محاولة تفكيك تلك الرؤي في كل مرحلة وقياسها على الواقع مع انها في كلياتها واضحة تماما، فالفكر الإسلامي في كليته لا يستوعب اصحاب الديانات الأخرى الا عبارة عن اخر ولا يمكن ان ينتمي إلى الذات وكذلك الرؤية العروبية لا يمكن ان تستوعب اصحاب الاعراق الأخرى الا إذا تحولوا إلى عرب ولو من خلال اللغة والممارسة السلوكية ولان الممارسة السلوكية تخضع لشرط التحولات التي لا يمكن ان تتطابق بين ثقافات مختلفة فقد اختلت تلك الرؤية ايضا، اما الرؤية الغربية في ديمقراطية الفرد فلم يتم تفكيكها نسبة لاختلاف شروط إنتاجها عن المجتمع لذلك وقفت النخب امامها كما هي واستعاضت عن اعادة التفكيك في اثبات جدوى الرؤية في الاشارة إلى الثقافة الغربية.
ان الرؤية الإسلامية هي الوحيدة التي تعرضت لاعادة استيعاب داخل الواقع السوداني (الطرق الصوفية) نسبة لاستيعاب مجتمع التحولات السوداني لمفهوم الديانة منذ قديم الزمان فقد مرت عليه كل أنواع الديانات إذا كانت المحلية أو السماوية، ولكن لان الرسالة المحمدية قد تم اعادة استيعابها داخل الثقافة العربية وفق قيم محددة وتم التدوين على اساس تلك القيم للرسالة الإرشادية فرغم محاولات التفكيك الا انها كانت تصطدم بالرؤية الكلية للثقافة العربية في مركزيتها الجزيرة العربية التي كانت تمنح تلك الرؤي صدقها وليس الواقع المحلي، فالازمة الحقيقية داخل الرؤية أو الفكر الاسلاموي كانت هي اتفاق كل النخب الإسلامية السودانية في ان القيم المعطي من قبل الثقافة العربية للرسالة المحمدية هي قيم إلهية جاءت منزلة مع الرسالة، وبالتالي أصبحت النخب تحاول ان تستوعب مجتمعاتها وفق تلك القيم أو تتجاوز تلك القيم إلى قيم مقاربة لها، فتولد مفهوم الاجتهاد في الفكر الإسلامي الذي يدور ليس حول احقية تلك القيم بالإله ولكن هل نتجاوز تلك القيم من اجل الواقع ام نتجاوز الواقع من اجل تلك القيم وهو ما يؤدي إلى مقارنة خاسرة فبما ان تلك القيم هي إلهية فلا يمكن "مهما استخدمنا من المجال الزرائعي" ان نكون امينين مع انفسنا ونقول ان نتجاوز الإله أو قيمه من اجل الواقع، وهو ما يولد المزايدات عند الفكر الاسلامي.

السودانوية في رؤية النخب:
لا يعني كل ذلك عدم ظهور السودانوية ولكنها لم تتبلور كمنهج أو رؤية فكرية فقد كانت تدور حول محاولة التوفيق بين الواقع والفكر بين الافريقانية والعروبة أي كانت تنظر إلى الواقع من الخارج كمحض توصيف ولم تري السودانوية داخل مجتمع التحولات كمجتمع استيعابي للكل السوداني.
ظلت السودانوية ماثلة على مستوى الواقع ولكنها كانت عصية على الاستيعاب من قبل النخب وقد تنبه لذلك القصور في وعي النخب الاستاذ احمد الطيب زين العابدين "في مقالة سترد لاحقا" في مقالته (ان المجتمع يصنع تاريخيه كافراز للحياة ولكن ذلك لا يترتب عليه أو يساوقه وعي بذلك التاريخ) فكل محاولات استيعاب الواقع كانت تنطلق من محاولة التوفيق بين العروبة والافريقية كهوية أو كشعور للمجتمع الجيني وبين الفكر العربي والفكر الغربي كمفهوم للدولة، ولم تستطع ان تستوعب النخب ان ذلك المزيج قد خلق السودانوية التي نراها في الواقع ولا نجد لها اثر في فكر النخب ككلية وليست كمحاولة توفيقية.
وبدات الاشارة للسودانوية تظهر مع بداية المهدية عندما استوعبت الثورة المهدية كل القبائل في حربها ضد المستعمر  رغم ان المستعمر كان مسلم وهنالك قبائل كانت ومازالت مسيحية أو تقوم على ديانات محلية. وعند قصور استيعاب الدولة كهوية سودانية عند المهدية ادي ذلك إلى نشوب الحروب التي خاضتها المهدية، ثم ظهرت السودانوية مرة أخرى في اشعار العبادي (جعلي ودنقلاوي وشكري ايه فايداني غير سبة خلاف خلة اخوي عادان – خلي نبانا يسري مع البعيد والداني يبقي النيل ابونا والجنس سوداني) فتلك المحاولة لرؤية السودانية لم تتجاوز محاولة التوفيق دون ان تقول ان هنالك سودانية رغم وجود التنوع الماثل، ثم ظهرت السودانوية مرة أخرى في مدرسة الغابة والصحراء ومن اسمها هي محاولة لربط الهوية العربية بالافريقية، فكل تلك المدارس لا تري السودانوية كهوية اصيلة ولكنها نتاج لمزيج من كل ولم تستوعب ان ذلك الانصار قد اخرج ثقافة مغايرة تماما عن المكونات الاولية له.
لقد راينا ان السودانوية كفكرة أو كمفهوم كانت تتواجد داخل المجتمع ومحاولات النخب ولكن السودانوية كمشروع ثقافي فقد كانت بدايته مع الاستاذ احمد الطيب زين العابدين "ففي مقال السودانوية: "في ذكري الاستاذ المبدع احمد الطيب زين العابدين" بقلم: المامون خضر عبد الرحيم – موقع سودانايل" (ان الهوية السودانية الثقافية التي شكلت وجدان الشعب السوداني هي التي اطلق عليها السودانوية التي أفترض فيها إن الثقافة الافريقية هي الثابت الاساسي في الهوية السودانية علي حسب المعطيات التاريخية والمكون الرئيسي لوجدانها وزائقتها التي علي اثـرها أبدع الانسان السوداني في المجالات الحياتية السودانية واثراها بأشكال أبداع مختلفه و متنوعة حسب جغرافيته وتشكيلاتها الاثنية علي الخارطه الثقافية السودانيةألا إن الهيــمنة التي كانت تفرض من قبل بعض المفكرين العروبيين و من الاحزاب و الجماعات الاسلامية و الحكومات المتعاقبه هي تغليب سمات الهوية العربية ورفع من شأنها مقابل الملامح الثقافية الافريقية و فرضها علي اساس انها المكون الاساسي في الثقافة السودانية مما نتج عن ذلك أحتكاك ما بين المكونين "المحلي والوافد" أسهم ذلك في خلق هوة و شقاق و تهميش للثقافة الافريقية واستبعدت من المشاركة بفاعلية في التظاهرات الثقافية بدعاوي التحريم و البدائية و خلوها من القيم الاسلامية العربية وكان ان ساهمت احزاب الاسلام السياسي و الاحزاب القومية العربية في فرض الثقافة العربية قسراً علي كل السودان.
ولكن كل ذلك لم يصب في مصلحة السودانوية كهوية فكرية أو مشروع فكري نسبة لعدم بداية الاستيعاب والتدوين بناء على الوعي بالسودانوية (أي الاستيعاب من الواقع) فقد وقف ذلك الفكر عند الاشارة فقط إلى السودانوية من خلال افرادها وليس من خلال توصيفها كفكر. بالإضافة إلى ذلك كان العجز عن نقد الرؤي الفكرية العربية الإسلامية والغربية الديمقراطية والاشتراكية حتى نستوعب شروط إنتاجها التاريخي.
ونواصل

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الرسالات الإرشادية بعيدا عن التدوين العربي (2)

من الانتفاضة إلى الثورة السودانية (1)