أزمة الفكر الفلسفي وعلاقتها بالأزمة السودانية


تدور كل أسئلة وإجابات الفكر الفلسفي حول ثلاثية الإله والإنسان والطبيعة، وفي داخل المفهوم الإلهي توجد كل أسئلة الماورائيات والرسالات اما الإنسان فيتضمن مفاهيم الفرد والمجتمع والآخر، ثم الطبيعة وما تحتويه من دراسات أرضية وكونية. فهذا هو المجال الكلي للفلسفة. وبدأت الأفكار قبل أن تتحول إلى فلسفة أو رؤية كلية تدور حول الأنا وتعتمد على الفرد النخبوي والتحولات الاجتماعية داخل مجتمعه الذي يوجه تفكيره إلى اتجاه محدد، ثم تتراكم تلك النظريات حتى تصل إلى رؤية تعتبر هي الأساس للفلسفة داخل المجتمع المحدد، وثم تتحول الفلسفة إلى دراسات منظمة تبحث عن إجابات جزئية على خلفية تلك الرؤية الكلية.
فسؤال الأنا هو الجوهر الذي انطلقت منه الأسئلة الفلسفية وتصب فيه الإجابات كذلك، ولذلك رغم قصور الفلسفات المبذولة الآن إلا ان سؤال الأنا جعلها ترتبط بمجتمع محدد وتحتوى ولو قليلا من تحولاته الاجتماعية، فتلك الفلسفات تحمل في جوفها تاريخ وامكنة واحداث وقيم لمجتمع المحدد، ولذلك نجدها لا تتقاطع تماما مع مجتمعاتها أي لا يتم رفضها تماما ولكن يتم تحويرها أو تعايشها مع بعض القيم الاجتماعية غير المستوعبة داخل الفكر الفلسفي المحدد. ولذلك تحتوى تلك الفلسفات على صورة اجتماعية ولو تاريخية أو صورة متخيلة من داخل العقل المجتمعي وبالتالي تمثل تلك الفلسفات هوية اجتماعية لمجتمعاتها المحددة.
والفلسفات المبذولة على ارض الواقع والتي في حقيقتها هي عبارة عن فلسفات قاصرة عن إدراك الحياة الإنسانية ولكنها رغم ذلك تفترض في نفسها إمكانية الإجابة على الأسئلة الكلية للمجتمع المحدد وللمجتمعات الأخرى، تتمثل تلك الفلسفات في اثنين فقط وهما الفلسفة الغربية بكل تفرعاتها التي تصل إلى الشيوعية والفلسفة العربية أو الفكر العربي الإسلامي والذي يمتد إلى الفكر الشيعي والصوفي كذلك. تلك الفلسفات ومن خلال النظر إليها من موقع الآخر ندرك انها قاصرة عن مدنا برؤية كلية للحياة نتيجة لوجود هوية ضمنية لمجتمع محدد وتحمل معها بعض القيم من ذلك المجتمع التي تتوائم مع النظرة الفلسفية المحددة. فتلك الأفكار حدت فيما بعد من إمكانية استيعاب الآخر وتحولاته الاجتماعية كما هو. وبالتالي أصبح الآخر رديف محمول غصبا عنه على ذلك التحليل الفلسفي الذي لا يستوعبه ولا يدرك الأبعاد الاجتماعية ومفهوم الطبيعة داخله أو البعد الاجتماعي لمفهوم الإله.
هذا بالنسبة لرؤية تلك الفلسفات من زاوية الآخر، اما إذا نظرنا لها من داخلها فنجد ان الفكر الغربي الفلسفي وفي محاولته على الإجابة على ثلاثية الإله والإنسان والطبيعة، قد ركز كل جهوده مع الطبيعة وجعل منها محور الأسئلة والأجوبة وصاغ منها رؤية كلية لماهية الحياة. كل ذلك جعل من الطبيعة مركز الفكر الفلسفي وحول الإنسان والإله إلى هامش التفكير، وصب ذلك الفكر نتائجه تلك داخل مفاهيم قيمية مثل التطور والعقلانية والعلم وغيرها، ونتج عن ذلك تحوير الفكر إلى منحى ايدولوجي نتيجة لقصوره عن إدراك ثلاثية الإله والإنسان والطبيعة، وانتخاب الطبيعة فقط ومحاولة استيعاب تلك الثلاثية من خلالها. واستفاد من قوانين الطبيعة ذات الثبات النسبي وقام بإسقاط مفهوم العلم على قيمه الثقافية التي تتمثل في العلوم الإنسانية حسب ادعائه، فتم سحب كلمة علم وإضافتها إلى الدراسات الإنسانية لتتحول كل قيم الثقافة الغربية إلى الناحية العلمية الايدولوجية التي لا تُمكن من وجود قيم مختلفة كاملة الإنسانية. وأصبحت تلك الفلسفة عبارة عن قالب جامد في علاقته مع الآخر، فعليه استيعابها وتطبيقها كما هي، دون إدراك لاشتراطات التحولات الاجتماعية التاريخية بين مجتمع وآخر. وأصبحت المجتمعات الأخرى غير الغربية هي المجتمعات البدائية والمتخلفة أو الأقل نموا في أحسن الأحوال، وحسب تلك التسمية فذلك الآخر عبارة عن رديف متأخر فقط عن الذات التي تمثل له بوصلة الاتجاه وخلاصة القيم الإنسانية التي يجب أن يسعى إليها. فكل الفكر الفلسفي للثقافة الغربية القديم والحديث لا يسعى إلى إدراك ماهية الإنسان والإله من خلال جوهرهم الذاتي ولكن يسعى إلى إدراكهما من داخل حقل العلم الطبيعي، فكل ما يقال عنهما عبارة عن إسقاطات للعلم الطبيعي النسبي على الحياة الإنسانية والإله.
اما الفلسفة العربية المتمثلة في الفكر العربي الإسلامي ورغم عدم اعترافه بمفهوم الفلسفة ولكنه في الأخر يقدم نفسه باعتباره رؤية كلية للحياة ولذلك نعامله معاملة الفلسفة. نجد ان ذلك الفكر لم يلجا إلى استخدام زاوية أحادية لرؤية الحياة كما الفلسفة الغربية التي استخدمت الطبيعة، ولكنه استخدم المفاهيم الفطرية لدي مجتمعاته عن الأنا والإله وعمل على دمج تلك الثنائية التي أصبحت الأنا الإلهية العربية، فمازج ذلك الفكر بين مفهوم الإله والصفات الإنسانية وأنتج من خلاله رؤية لا هي أدركت الإله المتعالي كما هو ولا الإنسان بوصفه الفاعل في الحياة. واستسلمت المجتمعات العربية لذلك الفكر نتيجة لرؤيتها تاريخها الذاتي وبعض قيمها ممثلة داخل تلك الرؤية.
والفكر العربي أكثر ضبابية من الناحية الفلسفية من الفكر الغربي، ليس فقط لأنه لا يعترف بالفلسفة ويقول انه رؤية إلهية، ولكن لعدم اتخاذه على الأقل زاوية محددة من الزوايا الثلاث للانطلاق منها، أي من ثلاثية الإله والإنسان والطبيعة، فرغم قصور الفكر الغربي إلا انه اوجد العلم الطبيعي وهو في ذاته إضافة حقيقية للإنسانية. فتلك البداية وذلك الخلط من الأساس بين الذات الإلهية والإنسانية أدي إلى عدم إمكانية وجود تراكم معرفي يجسد الخط الذي تسير عليه الأفكار العربية، ولذلك نجده قد توقف عن المسير منذ فترة ليست بالقصيرة نتيجة للبداية المبهمة التي اتخذها.
اما الأزمة السودانية فقد نتجت من وجود تلك الفلسفات الايدولوجية داخل الواقع السوداني منذ أمد بعيد، فإذا كان الفكر الغربي قد فرض نفسه على ارض الواقع بصورة مباشرة في القرن قبل السابق، فان الفكر العربي قد سبقه بقرون وبسط سيطرته على المشهد السوداني واستمر إلى الآن، ويجسدان مأزق حقيقي عند أدنى محاولة لإدراك الأنا أو إدراك الحياة ككل. فتلك الأفكار أو الفلسفات تحمل في جوفها أنا محددة مسبقا، ولا تمنح مساحة لتعريف الذات المختلفة الكاملة الإنسانية بكل قيمها ونظرتها للحياة. ولا تمكن تلك الأفكار من إيجاد تراكم معرفي تاريخي للمجتمع السوداني نتيجة لانتقائها فقط للقيم والمشاهد التي تدعم أفكارها تلك. فتبعثر تاريخ المجتمعات الأخرى وقيمها وحتى شخوصها من اجل انتقاء مع يلائمها.
وفي ظل كل ذلك يصبح الحديث عن حل الأزمة السودانية دون حل الأزمة الفكرية أولا نوع من تسكين الآلام فقط، فدون إيجاد رؤية كلية تمثل هوية حقيقية للإنسان السوداني تحتوى كل قيمه وتاريخه وتحولاته الاجتماعية، سنظل عرضة للمزايدة من قبل الفلسفات الأخرى ومن قبل المنتمين لتلك الأفكار من الجانب السوداني، وللأسف انعكس الاستقطاب الفكري على المجتمع السوداني وأصبحنا نفقد الوحدة الاجتماعية، ورويدا رويدا يتسلل الوطن من بين أيدينا. ومع فقدنا للوطن نفقد هويتننا الحقيقية كسودانيين التي يلاحظها الآخرين ولكن لا نستطيع أن نصيغها فكريا. وكل الأزمات الأخرى بدأت من عدم وجود الرؤية أو الفلسفة الكلية التي تعبر عنا، فالأزمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والظواهر السالبة كلها انعكاس للأزمة الأساسية وهي الفكرية.
اما الفلسفة التي اعتمدها فهي فلسفة التحولات الاجتماعية، التي تدعو إلى دراسة حقيقة للإنسان بعيدا عن الإسقاطات الفكرية السابقة. وتنظر تلك الفلسفة إلى الإنسان باعتباره مركز الحياة في الفعل، ورغم تكامله مع الطبيعة ولكن يخضع جانب الطبيعة إلى رد الفعل، فالوعي الإنساني هو الذي يشكل التصور عن الطبيعة وعلاقتها بالإنسانية. والذي تهتم به فلسفة التحولات كذلك هو إدراك البعد الاجتماعي للفرد والتأثير الجيني الكبير على تفاعل الفرد الاجتماعي. وكذلك تعيد تلك الفلسفة تعريف الإله المتعالي وعلاقته بالإنسان وعلاقته بالرسالات وماهية تلك الرسالات في جوهرها. واهم ما في فلسفة التحولات هو نظرتها للإنسانية من الخارج، فهي لا تتخذ هوية اجتماعية محددة ولكنها تدرك البعد الإنساني لكل مجتمع واختلاف تحولاته الاجتماعية عن المجتمعات الأخرى، وان تحقيق الإنسانية يختلف باختلاف التحولات تلك. فهي إذا لا ترى المجتمع السوداني مركز الكون، والمجتمعات الأخرى رديفا له ولكن لكل مجتمع إنسانيته الكاملة وفق خصوصية تحولاته الاجتماعية.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الرسالات الإرشادية بعيدا عن التدوين العربي (2)

من الانتفاضة إلى الثورة السودانية (1)