تفكيك الخطاب العربي الإسلامي بين الإسلام كثقافة والإسلام كرسالة


من اجل عصر تدوين سوداني
(7)
مدخل ضروري:
لقد واجهت عدة تعليقات من ارتفاع لغة الخطاب عن المستوى الذي يمكن استيعابه ولكن كان الخطاب في هذا الشكل للأسباب الآتية:
1/ ان عدم طرح النخب السودانية للمفاهيم بناء على الثقافة السودانية واعتمادها على رؤيتي الثقافة الغربية والعربية ادت إلى ان يكون هنالك بون شاسع بين طرح كلية في ظل عدم طرح اسئلة تكون عبارة عن سلسلة تاريخية متواصلة، ولذلك قبل طرح هذه السلسلة بدائنا مقالاتنا بعدة مقالات تطرح الأسئلة وتجاوب عليها من خلال رؤية الثقافة العربية أو الثقافة الغربية ومن ثم رؤية التحولات الاجتماعية التي تحاول ان تتجاوز تلك الرؤي. فعدم طرح الأسئلة الكلية عن مفهوم الإله مثلا أو الإنسان أو المجتمع أو اللغة من قبل النخب واحالة تلك الأسئلة من جيل إلى اخر حتى قارب وعي المجتمعات مع وعي النخب من حيث تناول الراهن فقط بعيدا عن كلية سودانية حقيقية.
2/ ان طرح الخطاب جاء من داخل رؤية التحولات الاجتماعية لذلك فهو لا يمت إلى المدرسة العلمانية أو المدرسة العروبية الإسلامية.
3/ وثالثا واخيرا ما يسعي اليه الخطاب هو استفزاز النخب لعدم التهيب من طرح الأسئلة إذا كانت الأسئلة الكلية أو الجزئية ولكن ذلك بناء على الواقع فالمنطق هو ما يشمل الواقع اما ان تسال السؤال من الواقع وترده من واقع اخر إذا عربي أو غربي فلن نضيف إلى الواقع شيئا. فإذا سئلت انسان عن الإنسان السوداني يجيبك انه انسان متميز وإذا سئلت السودانيين في دول المهجر يجيبونك نحن شعب متميز فعلي النخب ايجاد كلية تعبر عن ذلك الشخص المتميز أو ماهية اختلاف التحولات الاجتماعية بين الثقافة السودانية والثقافات الأخرى التي ادت إلى ذلك التميز.
ونواصل:
لقد وظفت النخب العربية مفاهيم الرسالة الإرشادية وفق رؤيتها التي اخذتها من الوعي الجيني والتحولات الاجتماعية للمجتمعات العربية في ذلك التاريخ، وقد حاولنا في المقالات السابقة ان نوضح الفرق بين الكتاب الإلهي (كعهد) والمصحف العثماني كرمز ثقافي، ثم حللنا ذلك التداخل الذي تم لكل الرسالات الإسلامية ومن ضمنها الرسالة الخاتمة بين الوعي المجتمعي الذي يفرض ذاته على النخب ومن ثم يتم صياغته داخل مفاهيم تعبر عن اعادة استيعاب المجتمعات العربية في ذلك التاريخ لمعني الإنسانية أي ما هو إنسان من حيث الترميز السلوكي أو الوعي الجيني أو الراهن، ومن هنا كان المصحف العثماني نتاج لكل ذلك فعند محاولة استيعابنا للرسالة الإرشادية الإلهية وجب ان نفكك تلك الرؤية إلى مبادئها الأولية حتى تستطيع ان تري ذاتها بعيدا عن التراكم الذي حدث للرؤية النخبوية التي أصبحت فيما بعد رسالة إلهية تقيد المجتمعات والنخب، ومع وعينا بالكيفية التي تم بها اعادة استيعاب الرسالة الإسلامية من قبل النخب الأولى والتي وجدت نفسها امام رؤية تختلف عن رؤيتها للإنسانية فحاولت ان تقارب رؤيتها مع الإرشاد الإلهي ولكن النخب التي اتت بعد ذلك ادت إلى استيعاب كامل الإرشاد الإلهي داخل ذلك الوعي التاريخي مما قاد إلى ترميز الفعل التاريخي كقيمة إلهية صنمية لا يمكن تجاوزها. ولتفكيك الرؤية النخبوية العربية حتى نأخذ الإرشاد كما هو وليس كرؤية لتلك النخب سنري بعض المفاهيم بين معناها الإرشادي ومعناها داخل كلية النخب العربية.
الآية من المعني النخبوي إلى المعني الإرشادي:
اما المصطلح الثاني الذي نرجع به إلى معناه التاريخي فهو مفهوم الآية والآية اصطلاحا: سميت الآية من القرآن آية لأَنها علامة لانقطاع كلام من كلام. ويقال: سميت الآية آية لأَنها جماعة من حروف القرآن. اما في الرسالة الإرشادية فقد جاء مفهوم الاية بمعناه البياني أي كما كان يستعمل في المجتمعات العربية لحظة الرسالة (والآيةُ: العَلامَةُ، وزنها فَعَلَةٌ في قول الخليل، وقوله عز وجل: سَنُريهم آياتنا في الآفاق؛ قال الزجاج: معناه نريهم الآيات التي تدل على التوحيد في الآفاق أَي آثارَ مَنْ مَضَى قبلهم من خلق الله، وآية الرجل: شَخْصُه. والتَّأَيِّي: التَّنَظُّر والتُّؤَدة. يقال: تأَيَّا الرجلُ بتأَيَّا تَأَيِّياً إذا تأَنى في الأَمر؛ وتأَيَّيت عليه أَي تَثَبَّتُّ وتمكَّثت). أي كل فعل يحتوى على دلالة محددة تعتبر تلك الدلالة اية ذلك الفعل من فاعله للدلالة عليه دون اشتراط التواصل ما بين الفاعل والاخر في الوعي بتلك الآيات كما ذكر الله تعالي (وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4)، (وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7))، وغيرها من الآيات. وكذلك ليست هي اشتراط على الترميز النهائي للفاعل الإنساني كما تفعل المجتمعات فقد حاولت الرسالة التنبيه لذلك من خلال مفهوم التوبة أي بامكانية الفرد على تجاوز الفعل المحدد متى ما وصل إلى الوعي أو القناعة بتأثير ذلك الفعل على ذاته الإنسانية المجتمعية كفرد عادي أو على الكلية كنخبوي.
والآيات ليست دلالة مباشرة على الالوهية وذلك للتعالي الإلهي عن التجسيد المادي ولان وعي الإنسان العادي يقوم على الترميز والتصور فقد جاءت الإشارة على العلماء أي النخب والمثقفين كما نرمز لهم الآن وذلك لاستيعابهم الكلية بناء على وجودهم في مركز التحولات واستطاعتهم رؤية الترميز السلوكي وتجاوزه فكانت دعوتهم إلى الوعي بمغزى الحياة والوعي بالإله المتعالي ومجتمعاتهم الإنسانية والأخر الإنساني المختلف وذلك بالاستفادة من الإرشاد الإلهي مع وجودهم داخل مجتمعاتهم (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آَيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197)، (وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)، (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)).
(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)). والآيات المحكمات هي الايات الثابتة منذ بداية الكون والتي أشار اليها الإله في محاورة ابراهيم مثلا (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258))، (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61)) فالتناسق الكوني رغم الاختلاف بين الكواكب والنجوم وغيرها هي من الايات التي تدعوا إلى التفكير، وكذلك في الإنسانية (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85))، فعند محاولة صياغة كلية كان الإرشاد في ترميز قريب إلى العقل الإنساني عن ماهية الكون والإنسان وعلى النخب التي تسعي إلى انشاء كلية استيعاب ذلك الإرشاد داخل كليتها. اما مفهوم الايات المحكمات الذي استخدمته النخب العربية فهو خاص برؤيتها للإنسانية الذي استمدته من الوعي الجيني والراهن التاريخي داخل مجتمعاتها في زمن الرسالة وذلك في رؤية المجتمعات للإله السيد الذي يتجسد داخل قيم المجتمعات والذي يأمر فيطاع وليس الإله المتعالي الذي يرشد الإنسان إلى الوعي بذاته والمجتمعات والأخر والكون (تفسير الطبري (وأما " المحكمات " ، فإنهن اللواتي قد أحكمن بالبيان والتفصيل ، وأثبتت حججهن وأدلتهن على ما جُعلن أدلة عليه من حلال وحرام ، ووعد ووعيد ، وثواب وعقاب ، وأمر وزجر ، وخبر ومثل ، وعظة وعِبر ، وما أشبه ذلك).
وللتعالي الإلهي عن الترميز والتجسيد فلا يوجد هنالك فعل يدل على الالوهية مباشرة ولكن يتم الوعي بالإله المتعالي من خلال النظر في الكل الإنساني والطبيعي (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آَيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)، (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79))، (وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)).
ولان وعي الإنسان العادي يقوم على الترميز والتصور وهو ما أدي إلى قصور في وعيه بالإله المتعالي عن الفعل والترميز لذلك كانت النخب هي البديل للرسل عند وصول التحولات إلى مرحلة التحولات الثقافية ووجود الاخر داخل حيز الوعي. ولكن ما فعلته النخب العربية وعلى راسها النخب القرشية في استلاف الصورة التي تكونت تاريخيا بين السيد والعبد إلى العلاقة بين الإنسان والإله فالسيد هو مصدر الفعل وكذلك الإله والسيد هو مصدر الإرادة والعبد لا ارادة له، كذلك العلاقة بين الإله والإنسان فذلك الوعي بالإله السيد المتجسد داخل الوعي الجيني من خلال الترميز السلوكي هو الذي ادخل مفاهيم الاستسلام والإذعان والحرام والحلال وغيرها. وكذلك تم رسم تلك الصورة باعتبار علاقة الإنسان بالاخر إذا كان داخل الثقافة أو الاخر الثقافي ففي مقولات الحكم والملك لا يوجد فرق بين السيد والعبد وبين الحاكم والمحكوم (ورد في المستطرف في كل فن مستظرف (ص 119) (قال بعض الحكماء: إذا زادك السلطان تانيسا، فزده اجلالا، وإذا جعلك اخا، فاجعله ابا، وإذا زادك احسانا، فزده فعل العبد مع سيده ...).
ذلك مما صاغته نخب الثقافة العربية باعتباره الإله ولكننا نري ان الإله يتجاوز الترميز الضيق أو الصنم الذي شيدته الثقافة العربية باعتبار انه الإله، فيجب الوعي بان الترميز السلوكي عبارة عن ترميز مجتمعي تاريخي وضرب الأمثال في داخل الرسالة من التاريخ أو الواقع ليس باعتبار تلك الأمثال قيم إلهية ولكن بالوعي بالإنسانية من خلال تعميم الترميز على الكل المجتمعي وليس قصره على فئة معينة إذا كان ترميز سلبي أو ايجابي. اما الفعل الإنساني هو فعل ذاتي داخلي يتكون من خلال معادلة الوعي الجيني والترميز السلوكي والراهن (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29))، بل أكثر من ذلك فالعهد الإلهي للإنسان جاء من اجل يجتهد الفرد في الوعي بالإنسانية والإله المتعالي كل في مجاله إذا كان فرد عادي فعليه تعميم الترميز السلوكي للإنسانية على الكل المجتمعي والتعامل مع الاخر وفق الإرشادات، اما النخبوي فعليه استيعاب التحولات داخل مجتمعه وإعادة استيعاب للترميز السلوكي على أساس إنساني فلا يوجد في الرسالة امر من سيد إلى عبد ولكن عهد في السعي إلى الوعي، وذلك نجده في من خلال لفظ كتب فلا يستعمل الإله لفظ فرض كالزام قسري من سيد إلى عبد بل يستعمل لفظ كتب كعهد بين الإنسان والإله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178)، (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)) وغيرها من الايات) ومن هنا تأتي الإرادة للفرد بالالتزام بالتواثق ام لا.
ومع التحولات الاجتماعية وإعادة تشكل القيم السلوكية داخل المجتمعات كانت نخب الثقافية العربية تستصحب معها فقط ما تبقي من تلك الكلية وتتوسع بها لتستوعب القيم الإنسانية الكلية التي تعني وجود مجتمع حقيقي يستطيع الفرد ان يتواصل معه فعدم وجود ذلك المجتمع أدي إلى نشؤ الإحالة البديلة التي تمثلت في ما هو دين وما هو دنيا أو مصالح مرسلة كمرحلة اخيرة من تلك الكلية للمحافظة على ذاتها وتم احاطة تلك المرحلة بقدسية تاريخية حتى تكون في مناي من ضغط التحولات الاجتماعية فوجود الصلوات والتوسع بها وكذلك الزكاة كفرض ديني والضرائب كفرض دنيوي وعقد الزواج كعقد ديني والعقودات المدنية والقروض والتعامل بها في البنوك من قرض حسن إلى المرابحات كل ذلك أدي إلى الفصل بين ما هو ديني وما هو دنيوي في عقلية النخب العربية واختصت ذاتها بما هو ديني كما في الرسالات السابقة باعتبارهم كهنة للرسالة المحمدية.
وما يمكن ان نوضحه بناء على رؤية التحولات الاجتماعية والانسان الاجتماعي والاله الذي يتجاوز التاريخ والواقع هو ان ليس هنالك احالة مادية للنص القراني بناء على الرؤية الالهية ولكن هنالك احالات انسانية مستمرة على مستوى التاريخ فمن خلال الدفع إلى الوعي بالمجتمع الحقيقي كمجتمع انساني والاخر كذلك كاخر انساني يمكن ان تتجسد الآيات من خلال ذلك الفعل في سلوكيات محددة توضح مدى تفسير تلك الرؤية للإنسان والتاريخ والإله.
الإسلام كمنهج الهي إرشادي تاريخي:
نجد التعريف الاصطلاحي لمفهوم الإسلام عند النخب العربية في تفسير: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآَيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) ومعنى " الدين " ، في هذا الموضع : الطاعة والذّلة. وكذلك " الإسلام " ، وهو الانقياد بالتذلل والخشوع ، والفعل منه : " أسلم " بمعنى : دخل في السلم ، كما يقال : " أقحط القوم " ، إذا دخلوا في القحط. عن قتادة قوله : " إنّ الدين عندَ الله الإسلام " ، والإسلام : شهادة أنّ لا إله إلا الله ، والإقرار بما جاء به من عند الله ، (3) وهو دين الله الذي شرع لنفسه ، وبعث به رسله ، ودلّ عليه أولياءه ، لا يقبل غيرَه ولا يجزى إلا به. " إن الدين عند الله الإسلام " ، قال : " الإسلام " ، الإخلاص لله وحده ، وعبادته لا شريك له وإقامُ الصّلاة ، وإيتاءُ الزكاة ، وسائرُ الفرائض لهذا تَبعٌ. ( أَسْلَمْنَا ) [سورة الحجرات : 14] ، قال : دخلنا في السِّلم ، وتركنا الحرب. " إنّ الدين عند الله الإسلام " ، أي : ما أنت عليه يا محمد من التوحيد للربّ ، والتصديق للرسل). في اعادة استيعاب واضحة للرسالة الإرشادية داخل الوعي الجيني للمجتمعات بترميز الإسلام كمنهج إرشادي إلى الإسلام كسلوك تاريخي مجتمعي.
اما الإسلام في الرسالة الإرشادية فهو اسم للرسالات الإرشادية التي اتت من عند الإله في دلالة على الوعي بتلك الرسالات التي تقودك إلى الوعي بالكلية التي تعني ضمنيا الوعي بالكل الاجتماعي والأخر الإنساني مما يؤدي إلى السلم ونتاج ذلك كانت وصف من استوعب تلك الرسالة بالمؤمن والتي هي من الأمن الواعي مع ذاته الاجتماعية والأخر. فاختصاص المنهج الإرشادي الإلهي بمفهوم الإسلام نجده في (تفسير الطبري (القول في تأويل قوله : { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)} قال : الله يشهد هو والملائكة والعلماء من الناس : أنّ الدين عند الله الإسلام ابتداءً). وما لم تستطع النخب العربية استيعابه هنا ان ابتداء هنا لا تعني الإسلام الترميزي ولكنها تعني الإسلام كمنهج إرشادي فكل الرسالات هي رسالات إسلامية ولكنها تختلف في توصيل ذلك الإرشاد من مجتمع إلى اخر بناء على مرحلة تحولات ذلك المجتمع وترميزه للإنسانية السلوكي. وكذلك نجد اختصاص الرسالة بالإسلام في  الرسالة إلى الخليل ابراهيم عند تجاوزه للترميز المجتمعي في سعيه إلى الوعي بالإله فكان الإرشاد من الإله ليس للوعي بالإلهي المتعالي فقط فذلك لا يتحقق ما لم يتحقق الوعي بالكل الإنساني والكوني أي بمغزى الحياة: (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) " إذ قال له ربه أسلم " ، إذ قال له ربه : أخلص لي العبادة ، واخضع لي بالطاعة ، وقد دللنا فيما مضى على معنى " الإسلام " في كلام العرب ، فأغنى عن إعادته. فإن قال لنا قائل : وهل دعا اللهُ إبراهيمَ إلى الإسلام ؟ قيل له : نعم ، قد دعاه إليه. فإن قال : وفي أي حال دعاه إليه ؟ قيل حين قال : ( يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) [سورة الأنعام : 78 - 79] ، وذلك هو الوقت الذي قال له ربه : أسلم - من بعد ما امتحنه بالكواكب والقمر والشمس). ولا يوجد امتحان أو غيره ولكن عند تجاوز الخليل إبراهيم للترميز المجتمعي للإله وأصبح يرفض الترميز والمجتمع معا في محاولة للوعي بالإله كان الإرشاد من الإله المتعالي بالمنهج الإرشادي الإسلامي للوعي بالإله المتعالي والوعي بالأخر المجتمعي وعدم رفضه ولكن دعته إلى الوعي بذاته والإله المتعالي.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الرسالات الإرشادية بعيدا عن التدوين العربي (2)

من الانتفاضة إلى الثورة السودانية (1)