الديمقراطية والشريعة الإسلامية من الملهاة إلى المأساة



عندما حاولت النخب السودانية تطبيق مفهوم الديمقراطية كانت عبارة عن ممارسة فارغة من كل معني قيمي تسعي إلى ترسيخه لذلك لم يترسخ في ذهنية المجتمعات انتماء إلى تلك الديمقراطية نسبة لتجويفها من الداخل فتلك الديمقراطية التي في ذهنية النخب لا تري المجتمعات ولكنها تري الدولة فقط لذلك لم يجد المجتمع ذاته. اما عندما حاولت النخب تطبيق الشريعة الإسلامية فقد فتحت على المجتمع السوداني أبواب جهنم فقتلت وشردت وفصلت المجتمع وقسمت الدولة ورفضت المجتمع السوداني بإرجاعه إلى جذوره بعيدا عن الانتماء إلى الكلية فأرجعت القبلية والعشائرية وضاع بالتالي مفهوم الوطن.
اذن كيف للنخب الصاعدة ان تسهم في تاريخ ضبابي وواقع مازوم ومستقبل مظلم؟! سنواصل في رؤية التحولات الاجتماعية وقراءة ديمقراطية الفرد والشريعة الإسلامية من داخل مجتمعاتها والظروف التي انتجت تلك الرؤية من خلال المقالات السابقة أو هذا المقال والمقالات اللاحقة، فيجب ان نستصحب معنا مفهوم الاله المتعالي وغيره من المفاهيم التي جاءت في المقالات السابقة. وسنتعرض للشريعة العربية أو الشريعة الإسلامية بشيء من التفصيل لاحقا. كذلك ارجو الرجوع للمقالات السابقة على مدونة الثقافة السودانية وازمة التدوين على الرابط التالي: kahmmed.blogspot.com
ان ديمقراطية الفرد عبارة عن فلسفة حياة أو رؤية كلية للإنسانية للثقافة الغربية تستوعب الإله والإنسان والمجتمع، وتعبر تلك الفلسفة عن ذاتها من خلال قوانين تنظم حياة الفرد من داخل المنزل إلى الدولة من خلال الرؤية الفردية الكاملة. فتم هضم مفهوم الذات الاجتماعية في الرؤية الغربية لصالح الدولة باعتبار ان الذات الاجتماعية للفرد تتمثل في الدولة وتقنين تلك الرؤية من خلال نظم وقوانين تدفع الفرد بعيدا عن مجتمعه الحقيقي نحو المجتمع التخيلي أو الدولة. ولان الدولة نظم وقوانين لا تعي إلا الفردية المطلقة (أي ليست بشر) فقد كانت هنالك حلقة دائرية تبدأ من الفرد وتنتهي عند الفرد دون المرور في ممارسة الإنسانية إذا كان فرح أو حزن أو غيره بالمجتمع الجيني للفرد إذا كان ذلك المجتمع يتمثل في الاسرة أو الاهل.
اما الشريعة العربية (الإسلامية) فهي أيضا رؤية فلسفية ولكنها تقوم على قيم مجتمعية تاريخية وعلى وعي جيني محدد فهي قامت على اعادة استيعاب الرسالة المحمدية ولكن وفق القيم الثقافية فأصبحت الرسالة الإرشادية عبارة عن رسالة ثقافية. فتم استخدام الإرشادات الإلهية داخل الجزئيات الثقافية وتم استيعاب كل ذلك باعتباره رسالة إلهية تنقسم إلى ان العرب هم مادة الإسلام واصله والى الكلية القيمية التي تتحور بين كل عصر واخر لمحاولة مجاراة التحولات. فما يؤمن به العرب في الجزيرة العربية هو الإسلام وما يحللونه هو الحلال عند الله!، ولان التحولات في الجزيرة العربية تختلف تماما عن التحولات في الدول على المحيط العربي من العراق إلى المغرب والسودان أو ما يسمي بالدول الإسلامية في افغانستان وغيرها وذلك باعتبار ان التحولات تحدث داخل الجين العربي فقط في الجزيرة العربية اما في باقي الدول فالجين العربي هو احد الجينات وليس كلها التي يتكون منها الوعي الجيني ولذلك اختلفت الأسئلة والاجابات عنها باختلاف التركيب الجيني والتحولات لكل دولة ولكل مجتمع.
اذن في مركزية الثقافة العربية يحدث اعادة استيعاب بناء على التحولات داخل المجتمع الذي يتحول من ترميز سلوكي إلى اخر، وما تغيير المناهج ودخول المراة لمجال العمل ومحاولة قيادة السيارات ومحاولة دخول دور الرياضة وغيرها من الظواهر الاجتماعية التي يضغط بها المجتمع في الجزيرة العربية على النخب لإعادة استيعاب الترميز السلوكي الحالي داخل الرؤية الكلية أو يتم فرضه من قبل المجتمع في الاخر على النخب فتصبح النخب ورؤيتها في جهة والمجتمعات في جهة أخرى، فالنخب العربية مثلا تقول لا ملك في الإسلام والجزيرة العربية لم تحكم بغير ملك منذ الدولة الاموية فأصبحت النخب تغرد خارج السرب. فعدم استيعاب الواقع داخل الرؤية لا يعني عدم وجودة ولكن يعني قصور في الرؤية عن استيعاب ذلك الواقع.
أزمة النخب الديمقراطية في السودان:
هذا عن الثقافة الغربية والعربية ورؤيتهما للإنسانية باعتبارها الفردي أو باعتبارها الجيني العربي أولا والسلوك التاريخي ثانيا، اما الثقافة السودانية فقد كانت عرضة للتجريب من جانب النخب بين الدولة والمجتمع فاتجهت النخب التي استوعبت قصور الرؤية العربية عن استيعاب كل المجتمعات السودانية كمجتمعات إنسانية كما هي إلى الرؤية الغربية في محاولة لتجاوز ذلك القصور ولكن وفق استيعاب تلك النخب لمفهوم الديمقراطية عند بناء الدولة وليس بناء المجتمع ولم تستصحب معها المجتمعات فأنتجت ثنائية بين الرؤية الغربية للإنسانية باعتبار الفرد والدولة كمجتمع له وبين الفلسفة العربية (الرؤية العربية للإنسانية) باستحواذها على المجتمعات نتيجة لوجود الجين العربي داخل الثقافة السودانية ولذلك استمرت الرؤية العربية رغم قصورها واعتمادها على قيم تاريخية. لذلك نجد ابتزاز النخب الإسلامية للنخب الديمقراطية وذلك لاستحواذها على المجتمعات فانعدام الثنائية العربية والإسلام في المجتمعات على المحيط العربي والمجتمعات الإسلامية أدي إلى احتماء المجتمعات بالإسلام ككلية قيمية (تعرفها جماعات التقديس) تجمع بين التعدد والاختلاف دون وعي من نخب تلك الأقطار بعلاقة الرؤية الإسلامية بالثقافة العربية. فكل الذي حدث من قبل النخب السودانية هو عبارة عن تبادل للادوار من داخل الرؤية العربية دون السعي إلى انتاج رؤية تطابق بين مفهوم الهوية مع مفهوم الإنسانية للكل السوداني. وهنا نتحدث عن كل النخب من اقصي اليمين إلى اقصي اليسار أي من السلفيين إلى الشيوعيين فكلهم يتبادلون الادوار لصالح مجتمع التحولات، وذلك بمحاولة النخب فرض رؤيتها على المجتمعات من خلال مفردات واستغلال المجتمعات لتلك المفردات لتمرير وعيها الجيني من خلال السلوك باستعمال أدوات المجتمع أي هي ليست رؤية مسبقة من جانب النخب أو المجتمعات ولكن تحاول النخب ممارسة إنسانيتها من خلال المفردات التي تعني وعي محدد وتحاول المجتمعات ممارسة إنسانيتها التي تعني سلوك محدد فتلك الجدلية هي التي تولد المفارقات بين السلفي والشيوعي فكلهم لا يستوعبون الاخر كاخر إنساني مختلف فكل فرد خارج الرؤية هو خارج الإنسانية بالنسبة للنخب. واستحواذ مجتمع التحولات على التعدد الجيني هو الذي ادي به إلى إمكانية تجاوز الترميز السلوكي إلى اخر فقصور الكلية القيمية التي تتطابق عند مجتمعات الأطراف مع القبيلة هو الذي يؤدي بمجتمع التحولات ونخبه الى محاولة ايجاد كلية بديلة تستوعب التعدد الجيني داخله.
فكان على النخب الاستفادة من تحولات الاخر ولكن بسودنة المفاهيم وفق الواقع السوداني وليس اخذ المفهوم كما هو في الثقافة الغربية – فمفهوم المنطق مثلا في الثقافة الغربية يخضع للرؤية الفردية التي لا تري الذات الاجتماعية للفرد – ولذلك للاستفادة من تحولات الاخر يجب ان نستوعب اختلاف التحولات واختلاف الرؤية الكلية التي تقوم على الإله المتعالي والفرد ومجتمعه إذا كان قبيلة أو عشيرة ثم الدولة. فمفهوم الديمقراطية يجب ان يتجاوز شكل الدولة إلى فلسفة للحياة تربط بين الدولة والمجتمع والفرد فالفراغ بين الدولة والمجتمع تملاه الرؤية العربية بقيمها التاريخية لصالح مجتمع التحولات، دون ان تستفيد مجتمعات الهامش أو الطرفية من خروج بعض النخب عن رؤية الوسط ومناداتها بالديمقراطية، فخروج النخب الديمقراطية لم يكن خروج كلي من الرؤية رغم وعيها بقصور الرؤية العربية (نسبة لاحتوائها الجزئية الإسلامية) ولذلك لم توجه سهامها إلى مركز الرؤية العربية ومحاولة رؤية الإسلام بعيدا عن الثقافة العربية، ولكن وجهت سهامها إلى الواقع باعتبار ان الرؤية المقدمة من قبل النخب العربية والإسلامية هي رؤية إلهية كاملة ولكن الازمة تكمن في الواقع وليس في الرؤية فالواقع لم يصل إلى مرحلة تطبيق تلك الرؤية عليه ولذلك علينا اخذه بالحسني كما تفترض النخب الديمقراطية، فكان هروب اخر، فإذا كان مهارب المبدعين إلى البادية فان هروب المثقفين إلى الديمقراطية حاليا والماركسية سابقا دون فائدة للمجتمع الكلي السوداني. فالإنسانية الكاملة عند مجتمع التحولات من خلال الوعي الجيني تقف عند افراده وعلى بقية المجتمعات وأفرادها اثبات إنسانيتهم بالتماهي مع الوسط. ولتجاوز الوعي الجيني يجب ان نمتلك كلية قيمية تدفع نحو الكل السوداني ككل انساني يرتبط من خلال كلية قيمية تري الإنسانية من خلال الانسان السوداني وتتجسد في شكل نظم وقوانين تدفع المجتمع بعضه نحو بعض وذلك للخروج من سلسلة القبلية والاسلام كرؤية كلية إلى الوطن.
والحديث عن القانون ينقلنا إلى زاوية أخرى هي الدستور، ولاننا في مرحلة لم يتطابق فيها مفهوم الهوية مع مفهوم الإنسانية للإنسان السوداني الكلي وهروب مجتمع التحولات ونخبه عند قيادة الثقافة السودانية نحو التحول الكلي، فعلي النخب الصاعدة إذا كانت تريد مواجهة الواقع وتحليله ان تكون رؤيتها الكلية مستمدة من ذلك الواقع. فالدستور السوداني كبداية لسودانة الإنسانية يجب ان يقر بان كل فرد وكل مجتمع وكل قبيلة سودانية هو انسان بالاصالة له كافة الحقوق وعليه كافة الواجبات. فيجب على الدولة السودانية في هذه المرحلة ان تميل إلى التنسيق أكثر من التشريع وذلك نسبة لعدم امكانيتها بالتكفل بالكل السوداني فيجب اعطاء الولايات مساحات واسعة من التشريع خصما على الدولة وذلك برد التشريع إلى المجتمعات الحقيقية إلى ان يتحول السوداني من دولة متباينة إلى مجتمع كلي يتساوي فيه الإنسان في مركز التحولات مع الإنسان في الاطراف في الحقوق والواجبات حتى لا تكون الحقوق التاريخية التي يجدها انسان الوسط بناء على قصور الرؤية الحالية التي تدار بها الدولة السودانية خصما على الاخر في الاطراف. فعند المساواة يتوحد الترميز السلوكي الذي يطبق على كل الافراد وذلك لن يحدث إلا عند رؤية الإنسان في مركز التحولات والإنسان في الاطراف متساويين في الإنسانية لا يرفع الإسلام من شان احد ولا تدني القبيلة من شان الاخر.
وهي دعوة إلى النخب والى مجتمع التحولات إلى رؤية ذاته من داخل مجتمعه الحقيقي حتى تسهم في حركة التحولات التاريخية بايجابية فالرفض والاستلاب لا يعني توقف حركة التحولات ولكن يعني استمرارها بصورة مأزومة كما يحدث الآن، فالقيادة الايجابية تعني رؤية الإنسانية قبل رؤية الفعل والبحث عن مسببات الفعل ليس داخل الفرد فقط ولكن داخل المجتمع ايضا. فمصلحة الدولة تكمن في مصلحة كل أفرادها وليس افراد محددين، فاذا ضربنا مثلا عرضيا في تعاطي النخب مع الإنسان السوداني في تهجير وادي حلفا مثلا عبارة عن فرض رؤية التحولات على المجتمعات الحقيقية فلو تم التطابق بين الدولة والمجتمع وان يتم الوعي بان الإنسان السوداني هو إنسان بالاصالة فيجب توعيته بتاثير الخزان مثلا عليه وعلى الكل المجتمعي ثم بعد تعويضه أولا ثم بعد ذلك استلام تنازل منه لصالح الملكية العامة وليس لصالح الدولة، فمصلحة إنسان وادي حلفا في منطقته هي الاولى وكذلك كل المجتمعات والقبائل (فيجب ان لا تتصرف الدولة في الملكية العامة إلا من خلال المجالس التشريعية للولايات أو أي صورة أخرى نري بها عدالة التصرف في الملكية العامة بناء على الوعي بالكل السوداني). وغير ذلك من القوانين التي يمكن ان تسن بناء على اعراف وعادات المجتمعات السودانية مثل الجودية والذي وجد حظه داخل الثقافة الغربية بقانون المحلفين حتى لا يكون الحكم عند فرد واحد فالقاضي في ذلك القانون عبارة عن انسان ناطق فقط بالقانون.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الرسالات الإرشادية بعيدا عن التدوين العربي (2)

من الانتفاضة إلى الثورة السودانية (1)