مسامرتي مع الله: الله بين التعالي والذهن الإنساني (2)




النخب السودانية ورهق الأسئلة:
من شيمة النخب السودانية الهروب من الأسئلة الحرجة المتولدة من داخل الرؤية العربية أو الرؤية الغربية، فقد انقسمت النخب السودانية إلى قسمين احدهما تابع للرؤية العربية وينقد الرؤية الغربية من داخل الرؤية العربية فلا يرى منها سوى جانبها المادي ومفهوم العلمانية باعتباره تضاد مع الدين فهؤلاء لا يسالون انفسهم هل اجابت الفلسفة الغربية على كل اسئلة الإنسان الغربي واين العلل في تلك الفلسفة التي افرزت الشكل المادي للثقافة الغربية؟. والأخر يمثل الرؤية الغربية وكذلك ينقد نتاج الرؤية العربية على الواقع وليست الرؤية في حد ذاتها فل يسال هؤلاء ايضا هل ما يقدمه الفكر العربي من رؤية تعبر عن الرسالة الارشادية أو هل مفهوم الله يمثل الإله المتعالي ام يمثل اله عربي لا يستوعب الاخر واين القصور داخل تلك الرؤية بما ان الفكر العربي لا يقول فلسفة الذي جعلها مستهلكة لمفاهيم فقط دون ان تكون لتلك المفاهيم علاقة بالواقع؟. ولذلك كلا القسمين لم يتجرا على الإتيان على سيرة الله فمنهم الهارب ومنهم المحايد ومنهم من يفزع ويستغفر مليون مرة اذا جاء هذا السؤال بينه وبين نفسه. ولا يدرك كل اولئك ان النخبوى في حد ذاته سؤال أنتجته المجتمعات لإجابة ما استعصي عليها من أسئلة التحولات، فالنخبوى سؤال من جانب المجتمع يجب ان يرد عليه عندما يسال من أنت بإجابات تستوعب مرحلة التحولات التي يمر بها المجتمع، فهو لا يجاوب عن ذاته كفرد ولكن يجاوب عن الأسئلة المجتمعية المتمثلة في شخصه. والنخب في ذاتها تختلف باختلاف حاجة المجتمعات فهنالك نخبوى منتج من جانب مجتمع محدد للإجابة على أسئلة ذلك المجتمع، وهنالك نخب لأسئلة الثقافة وهنالك نخب بين هاتين المرحلتين، فبين هذا وذاك تتعدد النخب صعودا وهبوطا بتعدد المجتمعات والتحولات داخلها.
إذا على النخبوي ان لا يكف عن طرح الأسئلة، وعليه استقراء الإجابات الموجودة داخله، فالإجابات ليست خارج النخبوي بل في الوعي الجيني الذي يمتلكه، فالنخبوي في ذاته سؤال من جانب المجتمع عن أزمة تحولات اجتماعية والإجابة تكمن داخله، ولكن عليه ان يستنتج تلك الإجابة من خلال طرح الكثير من الأسئلة ثم يقارن بين تلك الإجابات مع ما يشعر به (الوعي الجيني) من اختلاف بين تلك الإجابات وبين الواقع.
فانكفاء النخبوي على ذاته وعدم طرح الأسئلة والاكتفاء بالإجابات التي يقدمها الوعي المجتمعي يبعد النخبوي عن دوره الإنساني الحقيقي وتجعله تلك الطريقة يحي متغرب عن ذاته الحقيقية مما يجعله في أزمة دائمة داخليا رغم محاولته التكييف مع المجتمع، اما المجتمع المنتج لذلك النخبوي فهو لا ينتظر النخب كثيرا ولكنه ينتخب قيمه دون مراجعتها مع الرؤية الكلية من خلال التحول الأعمى ولذلك نجد المجتمعات في لحظات تاريخية كثيرة تحتوى على قيم متناقضة وذلك نتيجة لاختلاف الرؤية الكلية التي تقود المجتمعات مع التحولات الاجتماعية داخل تلك اللحظة التاريخية.

الخليل والمسامرة مع الله:
لم يكن السؤال عن الله عبارة عن سؤال محرم إلا بعد ان أقفلت النخب العربية ذلك الباب من اجل استمرار رؤيتها الايدولوجية التي تقصر بها الإله داخل فترة محددة من تاريخ الثقافة العربية بكل ما تحمله تلك الفترة من قيم. لم يرفض الله ذلك السؤال النابع من محاولة استيعاب دائمة للحياة الإنسانية وتحولاتها، وبغض النظر عن شكل السؤال اذا كان استفزازي من جانب مجتمعات لم تؤمن بما تقوله أنبيائها (فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً)، أو سؤال لباحث جاد عن علاقة الإله بالحياة الإنسانية، كانت تأتي الإجابات تفاعلية مع هذا وذاك (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآَتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153)) لتؤكد حق الإنسانية على ذلك السؤال فلم يتوفاهم الله تماما نتيجة ذلك السؤال ولكن ضرب بهم المثل باعتبار ان تلك ليست طريقة للسؤال وان تلك الطريقة لن توصلك إلى إجابات مفيدة بل ان حق السؤال لم يشمل الإنسانية فقط ولكنه تعداه إلى الملائكة ليضرب الله الأمثال للناس في حق السؤال والمجادلة.
وحق السؤال عن الله والبحث عن إجابته جاءت في الإرشاد الإلهي في شكل مثال من داخل العلاقات الإنسانية في الآية (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125))، فاستيعاب هذه الآية يأتي بعد إدراك المراحل الكثيرة التي قطعها إبراهيم الخليل في البحث ومحاولة استيعاب مفهوم الاله (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78))، فلم يتخذ الله إبراهيم خليلا بمعني الخليل الإنساني ولكن كان ذلك بمثابة مثال بان ترديد إبراهيم الخليل كثيرا لمفهوم الإله ومحاولة البحث عنه هي كحالة التي تحدث بين الخلان، فمفهوم الخليل في الآية يجمع بين إبراهيم وبين ترديده لمفهوم الإله والبحث عنه. وكان ذلك بمثابة ضرب من المثل عن الكيفية التي يمكن ان تكون بها العلاقة بين الإنسانية وبين مفهوم الإله فيمكن للإنسان ان يصبح خليلا لذلك المفهوم كما يمكن له ان يتسامر مع ذلك المفهوم، فالمسامرة مع الله لا تعني المسامرة بالمعني الإنساني ولكنها تأتي بالمعني الذي اتي في الإرشاد، أي ليست مسامرة مع الذات الإلهية ولكنها مسامرة مع المفهوم وتجليات ذلك المفهوم أو الإله داخل الحياة الإنسانية. فلا إمكانية للتحدث مع الذات الإلهية ولكنك تتحدث مع تلك الذات من خلال الآيات وفي ذلك يصبح الحديث بمثابة حديث مع الذات الإلهية.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الرسالات الإرشادية بعيدا عن التدوين العربي (2)

من الانتفاضة إلى الثورة السودانية (1)