الرسالات الإرشادية بعيدا عن التدوين العربي (3)




مفهوم الاخر في الإرشاد الإلهي:
ينقسم الاخر في الإرشاد الإلهي إلى اخر ضد أو اخر انساني وتم اخذ السلوك كمقياس لرؤية الاخر، وجاءت الرسالة الإرشادية متجاوزة الوعي الجيني الذي يري في كل ذات انتماء وفي كل اخر هو اخر ضد في المعني الجيني وفي المعني السلوكي. فالاخر عموما هو كل من يري في نفسه انه اخر ولكن الاخر الضد في الرسالة الإرشادية هو الاخر الذي يري في نفسه انه ضد ويحاول فرض رؤيته تلك على الذات. فقد تم تجاوز مرحلة الترميز الجيني مع استيعابه داخل الرؤية المقدمة فيمكن ايجاد الاخر الضد أو الاخر الإنساني داخل الذات الكلية المجتمعية أو في الاخر غير الجيني أي داخل المجتمع المحدد للفرد أو في المجتمعات الأخرى.
الاخر الضد أو الاخر الإنساني داخل المجتمع الثقافي العربي:
جاء تعريف الاخر في الإرشاد الإلهي للمجتمع العربي من خلال اعادة تعريف الذات ففي تلك المرحلة التي تجاوزت فيها المجتمعات العربية مرحلة العشائرية والقبلية وتم انتاج مجتمع تحولات للمرحلة الثقافية أو مرحلة المجتمع العربي الكلي، ولكن القصور النخبوي أدي إلى وقف اعادة استيعاب التحولات وبالتالي أصبحت التحولات الاجتماعية دون استيعاب، فجاء الإرشاد الإلهي للمساعدة في اعادة تعريف الذات بناء على تلك المرحلة والدعوى إلى استيعاب المجتمع العربي كذات في مقابل الاخر اليهودي وغيره. ولان المجتمع العربي الكلي كان يختلف في تحولاته فقد تم اعتماد الترميز السلوكي لمجتمع التحولات للتمايز بين الافراد متجاوزا في نفس الوقت الترميز الجيني الذي كان يفاضل بين الافراد على اساس الانتماء القبلي فاصبح التمايز على اساس السلوكي داخل المجتمع العربي الكلي.
وقد كانت بداية الدعوة داخل المجتمع المكي باعتباره مجتمع تحولات للكل العربي وكان الإرشاد على استيعاب مغزي الإنسانية أي مرحلة التحولات تلك والتي تدل عند استيعابها على الإله المتعالي وقد استخدم الإرشاد المجادلة بالتي هي احسن (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125))، ولكن استوعب الوعي المجتمعي ان الرسالة عبارة عن هدم للترميز القيمي الذي تقوم عليه رؤية الإنسانية للذات والاخر ولم يستطع ذلك الوعي ان يستوعب ان الرسالة تتجاوز الترميز القديم للإنسانية (القبلي والعشائري) إلى ترميز يستوعب مرحلة التحولات التي بها المجتمع العربي (الثقافي). ولذلك ونتيجة لعدم الاستيعاب عمل الوعي المجتمعي على اعادة اصحاب الرسالة إلى الترميز السابق ولما لم يستطع وصل إلى قطيعة مع الرسالة مرمزا الرسالة في اصحابها واصبح يوصف نفسه بالضد لاصحاب الرسالة.
وقد سعت الرسالة عندما لم يستوعبها الوعي المجتمعي (الجيني) إلى ان يتم التعايش بين الرؤيتين باعتبار ان كل اصحاب الرؤيتين ينتمون إلى مجتمع واحد وعلى المجتمع ان يختار الرؤية التي تفسر له مرحلة التحولات التي هو بها (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)). وعند اشتداد الرفض من قبل الوعي المجتمعي للإرشاد تم السعي إلى الخروج ولكن داخل المجتمع الواحد فلجا الرسول إلى يثرب باعتبارها امتداد لمجتمع التحولات مواصلا الدعوة داخل المجتمع العربي الكلي وهنالك ايضا تم الدعوة إلى المعايشة مع الرؤي الأخرى من خلال التحاور أو الاعتزال وذلك ليختار المجتمع ما يناسبه (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140)). وعندما ظهرت الدعوة بصورة واضحة وبدات تنتشر افترض الوعي المجتمعي ان الرسالة جاءت لتبدل القيم الإنسانية لديه والوعي المجتمعي لا يري الرسالة ولكن يري تجسيداتها من خلال جزء من افراد مجتمعه ولذلك كان يسعي إلى بتر ذلك الجزء  والذي في وعيه يعني بتر الرسالة.
وعند هذا الحد تحول المجتمع الجيني إلى اخر ضد الرسالة واستيعابها فقد فرض المجتمع المكي نفسه كاخر عندما رفض استيعاب ان الرسالة ليست رسالة قيمية ولكنها ارشاد من داخل القيم ولكنها تختلف عن المعهود باختلاف مرحلة التحولات، ومرة أخرى وصف المجتمع المكي بأنه اخر ضد عندما سعي إلى اجتثاث الجزء الذي امن بالارشاد الإلهي، فكان الرد بنفس القيم التي فعلها مجتمع التحولات في مقاومة جزء من مجتمعه (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)).
وعندما حاول اصحاب الرسالة اعتبار ذاتهم كاخر واستخدام الاساليب الخدع للانتصار في الحرب تم نفيهم عن ذلك لانهم في الحقيقة ليسوا باخر ولكن الرسالة عبارة عن ارشاد لاستيعاب مغزي الإنسانية وتعريف الذات الكلية التي تعني الكل العربي في مرحلة التحولات اثناء الرسالة، فالرسالة ليست قيم إنسانية بديلة للقيم التي عرفها المجتمع العربي ولكنها ضد ترميز الإنسانية والإله داخل قيم محددة تجاوزتها مرحلة التحولات وفرضها على الكل المجتمعي، كما جاءت الرسالة بالارشاد إلى كيفية ازالة الترميز الذي علق بالاستيعاب من المراحل التاريخية السابقة للتحولات (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58)). وبالتالي فان الرسالة ليست ضد افراد أي يجب ان لا يتم اتخاذ مقاييس الوعي المجتمعي الذي راي الرسالة عبارة عن افراد ولم يري الإرشاد الذي يتجاوز الافراد (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6)).
وعندما تعاهد مجتمع التحولات (المكي) مع بعض القبائل لاستئصال الرؤية من خلال استئصال افرادها كان الرد بالمثل ولكن وفق العرف القبلي الجاهلي حتى يتاكد الذي يريد ان يستوعب، ان الرسالة لم تأتي لنسخ العرف والاتيان باخر ولكنها جاءت لاستيعاب الذات الكلية ومن ضمن استيعاب الذات استيعاب قيمها (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)).
الاخر اليهودي والمسيحي:
عندما عرفت الرسالة الذات من خلال المجتمع العربي الكلي اصبح بالتالي اليهود وغيرهم عبارة عن اخر، ولكن كان ترميزهم كاخر ضد أو اخر انساني بناء على اختيارهم السلوكي تجاه الرسالة، ولكن الرسالة توسعت في ايراد اليهود كنموذج في كيفية اعادة استيعاب الرسالة الإرشادية من جانب الوعي المجتمعي والخروج بها من صياغها الارشادي المراد (وهو موضوع اخر).
ان الرسالة المحمدية لم تأتي من داخل الوعي المجتمعي اليهودي ولذلك كان الإرشاد إلى استيعاب اليهودي للوعي العربي تأتي جزئيا من خلال الإرشاد إلى عدم استيعاب النخب اليهودية للإرشاد الذي اتي مع الانبياء اليهود ومن ضمنهم عيسي وموسي. اما باعتبارهم اخر بناء على الترميز الجيني فقد سعت الرسالة ايضا إلى تعايش المجتمعات نسبة للاختلاف في التحولات بين الثقافة العربية والثقافة اليهودية (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)). وتثبيت الاختلاف بين الثقافات داخل الإرشاد الإلهي وتاكيد الاختلاف القيمي الذي يأتي مع اختلاف التحولات (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)). وكذلك التاكيد على الاختلاف السلوكي حتى لا يفترض الاخر الكتابي ان استيعاب الرسالة الإرشادية يعني التحول الكامل إلى قيم وسلوكيات الثقافة العربية (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)).
ولكن عند رفض اليهود استيعاب جزئية الإرشاد الإلهي وكذلك امكانية التعايش باعتبار الاختلاف الإنساني وفرض ذاتهم كاخر ضد، كان التخيير أولا بجلائهم عندما رفضوا التعايش في ظل الاختلاف الإنساني، ولكن عندما اعلنوا الحرب ووقفوا مع المجتمع المكي تم معاملتهم على العرف الجاهلي في ان الاضعف يدفع للاقوى لحمايته فكانت الحرب حتى يسلموا بانهم الاضعف مع احتفاظهم باختلافهم (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)).
ونواصل

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الرسالات الإرشادية بعيدا عن التدوين العربي (2)

من الانتفاضة إلى الثورة السودانية (1)