إلى نهلة محمود في يوم المراة




ان حالة التمرد الكاملة لنهلة محمود "الجعلي" على القيم والمفاهيم المجتمعية تظهر كانها حالة شاذة في شكلها الخارجي، ولكنها في الحقيقة نابعة من البيئة والمجتمع السوداني، وقد كانت هنالك عدة مؤشرات من جانب المجتمع ككل أو من جانب النساء بداية من رفض جزء من الخطاب الديني وللاسف هو رفض وليس نقد لذلك الخطاب، فعندما عجزت النخب السودانية ان تقدم نقد لذلك الخطاب الذي يمثل الثقافة العربية في مركزيتها وليس الثقافة السودانية، عجز النخب ذلك قاد المجتمع إلى موائمة قيمه مع تلك القيم ثم في مرحلة لاحقة اصبح المجتمع يسقط جزء من تلك القيم التي لا تلبي انسانيته من منظوره الشخصي، فاصبحنا نسمع من ترفض الحجاب بمفهوم الحرية رغما عن تسليمها بان الحجاب قيمة إلهية أو من ترفض التعدد في الزواج مما خلق ازدواجية في ايمان الافراد والمجتمع بمفهوم الإله، فهو اله منصف في جزء وغير منصف في جزء اخر.
وقد حاولنا في مقال سابق ان ننبه إلى تلك الحالات وتحديدا إلى موضوع الانثي المثقفة التي لا ترضي بديلا عن اجابات تستوعب حالتها ومفاهيمها، ففي مقال سابق بعنوان (التميز ضد المراة، أو العنوان الأساسي هل يتميز الإله والرجل ضد المراة) حاولنا ان نستوعب لحالة شبيهة نوعا ما لحالة نهلة محمود، وكان غرض المقال ان تفرق الانثي المثقفة تحديدا بين الرسالة الإرشادية وبين الخطاب الديني المتداول وان لا تحمل الإله وزر الإنسانية والنخب في عدم استيعابهم للرسالة الإرشادية بالشكل المطلوب. وحتى تساهم في خروج الثقافة السودانية من الازمة التي تمر بها.
وكان المقال في شكل حواري من جزئين اتينا فيه باغلب ما يعتمل داخل الانثي من نقد للخطاب الديني، وقد جاء على لسان انثي تحدثنا بلسانها في بداية المقال كالاتي: (قالت بغضب: لماذا يتحيز الإله والرجل ضد المرأة؟
قلت لها بهدوء: ماذا هنالك وكيف يتم هذا التحيز؟!
قالت: (الناس دي حيخلونا نكفر بالقليل الذي نؤمن به – ده جزء من محاضرة سمعتها بالإضافة إلى ما أجده في البيت والشارع فأعدت صياغتها كما أراها أنا لا كما يراها الراجل) ان النساء تعاني في هذه الحياة أكثر من الرجل ولا تجد التقدير الكافي لا من قبل الرجل ولا من قبل الإله، فهي من قبل الرجل ثانية في الترتيب ويجب ان تخضع لسيطرته وتمارس الحياة كما يراها دون ادني اعتبار لوجودها أو لفهمها للحياة، ومن قبل الإله هي ناقصة عقل ودين ولذلك لم تأتي رسالة واحدة من كل الرسالات الكثيرة عن طريق المرأة فكل الرسل كانوا من الرجال، وامرأتين حتى تساوي رجل واحد في الشاهدة وفي الميراث، ويمكن للرجل ان يتزوج بأربعة لتنتظر هي دورها ضمن القطيع، وخلقت المرأة من ضلع اعوج وثلاثة تقطع الصلاة الكلب والحمار والمرأة، وهي سبب كل بلاوي ومصائب الحياة في نظر الرجل والإله نتيجة لتواطئها مع إبليس في إخراج ادم من الجنة، ولا يريد الرجل ان يفهم ما تعانيه الأنثى من آلامها الفسيولوجية ولا الآم المخاض عندما ترفد الإنسانية بعامل استمرارها ولا سعيها باستمرار لتوفر حياة كريمة لها ولاسرتها وكذلك اهتمامها بكل ما حولها وووو، وبغضب ماذا تفعل المرأة أكثر من هذا لتثبت إنسانيتها وحقها في ان تقدم ذاتها من خلال نفسها وليس من خلال الرجل).
وكانت تلك مقدمة للمقال، وكخلاصة للمقال تم التركيز على ان الخطاب الديني الذي اتي من الثقافة العربية ليس هو الرسالة الإرشادية الخاتمة بل هو اراء نخب الثقافة العربية مضافا اليها قيمهم التاريخية. ولذلك عندما يرفض المجتمع جزء أو كل من تلك القيم فهو في الحقيقة لا يرفض الرسالة الإلهية ولكنه يرفض رسالة قيمية تقول بها النخب العربية ودونتها كرسالة إلهية.
فكان على نهلة ان تغوص قليلا في الرسالات الإرشادية قبل ان تصف نفسها بالمسلم السابق وتهرب من النقد الفكري للخطاب الديني فالمجتمع السوداني في هذه المرحلة يحتاج إلى جميع افراده من اجل اخراجه من حالة التوهان التي يمر بها وتحديدا يحتاج إلى النخب الصاعدة التي رات عمق الاختلاف بين ما يقدمه الخطاب العربي وبين الواقع أو ما يقدمه الخطاب الغربي كذلك وبين الواقع.
وقد تحدثنا في ذلك المقال على ان الرسالات الإلهية اتت لتعريف المجتمعات على ذاتها وواقعها، في سبيل الإرشاد للكل الإنساني وهي عندما تأخذ مجتمع محدد في مرحلة زمنية محددة تاخذه كمثال لتوصيل مغزي الإنسانية، فليس المجتمع الذي تأتي به الرسالة الإلهية مقصود في ذاته أو في قيمه، إذا كان المجتمع اليهودي أو المجتمع العربي ولكن المقصود توصيل مغزى الإنسانية ومفهوم الإله المتعالي، ولان المجتمعات تعرف ذاتها من خلال الممارسة السلوكية وليست الفكرية لذلك كانت الرسالات تستوعب تلك المجتمعات مع خلاصة قيمهم التي تكون في اعلي المجتمع (مجتمع التحولات) وتعممها على الكل في سبيل توحيد حركة التحولات، فالرسالات هي رسالات ارشادية أي ان جميع القيم السلوكية هي قيم إنسانية إذا كانت في العبادات مثل الصلاة والزكاة والصوم وغيره، أو في المعاملات في الزواج والطلاق والميراث (وقد تحدثنا في مقالات سابقة واوردنا مراجع على ذلك) فاستيعاب تلك القيم داخل الرسالة الإرشادية جاء لمعناها وليس لشكلها السلوكي.
والقيم السلوكية كما نري من خلال الواقع والتاريخ تتساقط مع حركة التحولات عندما لا تلبي مغزى الإنسانية الكلي للمجتمع، وكان على النخب ان تسعي إلى استيعاب مفهوم الإنسانية حتى تستطيع ان تري السلوك كمعبر للإنسانية وليس السلوك كقيمة إلهية حتى إذا تجاوزته التحولات يمكن اسقاطه من القيم الإنسانية، ولا ادل على قصور النخب في الاستيعاب هو عدم امكانية الإضافة من الرسالة إلى الوقع المتحول، فمثلا التحريم للرق لم يأتي من النخب العربية الإسلامية ولكن جاء من الامم المتحدة.
إذا على نهلة ومن شابهها قبل الهروب من الواقع ان يستوعبوا ان الثقافة السودانية هي ثقافة متفردة في نوعها فهي لا تشبه أي ثقافة في هذا الكون، ولذلك اصبحت الثقافة السودانية تجرب على ذاتها فقط وتمتلك مجتمع سهل التشكيل ولكن سريع الارتداد عند عدم التجانس، فإذا كان العرب يشبهون بعضهم والدول الاوربية والدول الاسيوية وغيرها تجد لها شبيها وذلك الشبه يجعل القيم والمفاهيم والسلوك قريبة من بعضها البعض وتنتقل من مجتمع لاخر، فالسودان والثقافة السودانية ليست لها شبيه ولذلك هي لا تستطيع ان تأخذ القيم السلوكية من المجتمعات الأخرى ولكنها تتواحد مع المجتمعات في المعني الكلي للإنسانية ، فهي حالة من حالات التمازج التي اخرجت واقع يختلف عن مكوناته الأساسية. لذلك فنحن نحتاج إلى معرفة تلك الذات السودانية وعلى النخب الصاعدة ان تسعي في استيعاب ذاتها السودانية أولا فاللجوء إلى القيم العربية أو القيم الاوربية هي حلول مسكنة فقط لا تغني عن الاستيعاب الحقيقي للتفرد السوداني.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الرسالات الإرشادية بعيدا عن التدوين العربي (2)

من الانتفاضة إلى الثورة السودانية (1)