الرسالات الإرشادية بعيدا عن التدوين العربي (4)




الرسالة الإرشادية والقيم العربية:
لقد عملت الرسالة الإرشادية المحمدية باعتبارها رسالة عربية على تعريف الذات العربية والتكامل الإنساني بين المجتمعات العربية من خلال توحيد الترميز السلوكي، فقد بدات بالمجادلة لتوصيل ذلك التعريف، ولكن عندما اختار مجتمع التحولات (المكي) مع المجتمعات الأخرى رفضها وتحولوا إلى اخر ضد وتم اختيار الحرب وبدوا بها كان الرد عليهم ولكن وفق العرف العربي الجاهلي وهي وضع السلاح عند الاشهر الحرم، وذلك لان الرسالة غرضها الأساسي ليس التعريف بالإله كما تفترض النخب العربية فتلك مرحلة أخرى، ولكن التعريف بالإنسانية والذات الاجتماعية للفرد خلال مرحلة تحولات محددة وتعميم ذلك المفهوم على مراحل التحولات الأخرى، فلا يمكن استيعاب مفهوم الإله المتعالي قبل استيعاب مغزي الإنسانية (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99)). فاذن الرسالة ليست للإيمان بالإله السيد وقيمه كما جسدها التدوين العربي ولكن الرسالة ترشد إلى وعي الإنسان بذاته الإنسانية والاجتماعية فعند ذلك الوعي يستطيع الإنسان ان يتوصل إلى الايمان بالإله المتعالي. ولذلك نجد ان كل القيم في الرسالة العربية أو اليهودية هي قيم تاريخية تجسد قيم المجتمعات لحظة الرسالة، ولكن التدوين النخبوي الذي يسير خلف الوعي المجتمعي قد جسد الرسالة داخل تلك القيم، وعكس معني الإرشاد فبدل ان يدل الإرشاد إلى كيفية استيعاب القيم وتحققها أصبحت القيم التاريخية هي التي تدل على الإرشاد وبالتالي تجمدت الرسالات الإرشادية داخل تلك القيم واصبح على الفرد حتى يستوعب الرسالة ان يرجع إلى زمن الرسالة ومجتمع الرسالة ليضاهي بين القيم وبين السلوك. ونتيجة لذلك القصور النخبوي استمرت التحولات الإنسانية ولكن دون اعادة الاستيعاب وتدوين من جانب النخب.
وقاد ذلك الاستيعاب القاصر للرسالة إلى الرجوع بفكرة الإله الواحد أو الإله المتعالي في الرسالة إلى الإله السيد (حسب الوعي المجتمعي)، فإذا كانت الرسالة اليهودية قد ماثلت بين الإله والمجتمع فتم اشراك المجتمع مع الإله وحصر الإله داخل المجتمع اليهودي، وكذلك عملت المسيحية بعد رفضها داخل مجتمعها الحقيقي فنجدها ماثلت بين الإله والمسيح والحقت المسيح بالإله وكذلك نجد ايضا في الرسالة العربية التي الحقت القيم العربية بالإله وبالتالي تم اشراك تلك القيم مع الذات الإلهية فاصبح لا تعريف للإله المتعالي خارج اطار تلك القيم، وبالتالي انهارت فكرة الإله المتعالي أو الإله الواحد داخل تلك الثقافات نتيجة لقصور النخب واتباعها للمجتمعات في استيعاب الرسالات الإرشادية. فكل القيم إذا كانت في العبادات أو في المعاملات أو غيرها مما توصف بانها دينية أي تنبع من الإله هي قيم إنسانية، فالدين أو الرسالة الإرشادية جاءت ليستوعب الإنسان انسانيته ومغزي الحياة فالتقسيم بين قيم دينية وقيم دنيوية هو تقسيم انساني يتم استيعابه داخل الرسالة الإرشادية ويؤدي دوره فقط إذا تكامل مع الكلية الإرشادية، اما عندما اصبح هو فقط الرسالة افرق الرسالة من معناها الكلي وأصبحت عبارة عن طقوس سلوكية لا اثر لها في الاستيعاب ومراحل التحولات. فاستيعابنا لحاجة الإنسان إلى ترميز انسانيته داخل قيم سلوكية محددة لا ينسحب إلى ترميز الإله داخل تلك القيم.
الاخر الإنساني والاخر الضد:
 لقد جاء الإرشاد الإلهي مستصحبا القيم العربية في استيعاب الاخر الإنساني أو الاخر الضد، فالتحول من المجتمعات العشائرية والقبلية إلى المجتمعات الثقافية يولد الاختلاف داخل الثقافة نسبة لاختلاف التحولات بين الافراد، ولذلك اصبح الاخر داخل وخارج الثقافة ولكن افراد الثقافة يمثلون امتداد طبيعي لبعضهم البعض نسبة للتكامل العضوي بين الإنسان والبيئة عند مرحلة التحولات المحددة والذي ينتج سلوكيات متقاربة. وكان يمكن للرسالات الإرشادية ان تساعد على استيعاب الواقع المتحول لولا ترميز الرسالة داخل قيم تاريخية افرغت المفاهيم الإرشادية من معناها الحقيقي، فقد جاء التوصيف في الرسالة في كيفية التعامل مع الاخر وليس لترميز الاخر داخل عريقية أو سلوكية معينة، فالاختلاف الإنساني هو اساس الحياة (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً)، ولكن الاخر الضد هو الذي يفرض ذاته ورؤيته على الإنسان ولو باسم الإله فهو يعتبر اخر ضد، فإذا كان الحديث من الرسل إلى البشرية من خلال الإرشاد فقط (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ (22))، فان الأولي بالذين يتحدثون باسم الرسل ان يكونوا كذلك. وكان يمكن لذلك المقياس الارشادي ان يطبق حيث ما كان ولكن تحول ذلك المقياس المفاهيمي إلى مقياس قيمي يحمل في داخله قيم محددة لا تجسد الذات وبالتالي لا يمكن للذات ان تطبقه على الاخر فهي في ذاتها أصبحت اخر من خلال ذلك المقياس القيمي.
النخب السودانية وفكر الاخر:
ان لجوء النخب السودانية إلى تدوين الاخر الغربي والعربي وهروبها من الرهق الفكري لاعادة استيعاب وتدوين الواقع هو الذي أدي إلى تواري السودانوية خلف الرؤية التطورية الغربية والرسالة العربية وقيمها، وهو ما اثر سلبا على الثقافة السودانية وادي إلى تحولات عشوائية داخل الواقع السوداني لا يحكمها تدوين وفكر محدد.
السودانوية كاستيعاب للإرشاد الإلهي:
ان أول ما ركز عليه الإرشاد داخل الرسالة العربية هو استيعاب الذات الاجتماعية الكلية للفرد حتى يمكن تعريف الاخر المختلف، فرغم مراحل التحولات المختلفة داخل المجتمع العربي الكلي فقد تم تعريف الكل العربي كذات اجتماعية للفرد وكل اخر خلاف العربي هو اخر مختلف إنسانيا، وتم التركيز على توحيد الترميز السلوكي لمجتمع التحولات كترميز للكل العربي باعتباره متجاوزا للترميز القبلي والعشائري في سلوكه وبالتالي يمكن استمرار التحولات الاجتماعية وفق توحيد الترميز السلوكي لكل مرحلة للمجتمع الكلي.
ولذلك فان عدم التحول الكلي للمجتمعات السودانية واختلاف مراحل التحولات بينها لا يمنعنا من ان نري ان الذات الاجتماعية للفرد السوداني تتمثل في المجتمعات الحقيقية التي انتجت مجتمع التحولات (مجتمع الوسط) بالنسبة للثقافة السودانية، فقد استطاع مجتمع التحولات ان يكون مؤثرا على مجتمعه الكلي عند مراحل كثيرة من التاريخ والتحولات ولكن وقفت النخب عائقا امام ذلك التكامل من خلال عدم استيعاب الواقع وذهبت إلى أكثر من ذلك عندما اعتمدت على التدوين الغربي والعربي بكل قيمه السلوكية في رؤية الواقع، وكل ذلك لم يوقف حركة التحولات التاريخية ولكنها أصبحت عشوائية ودون استيعاب وهو ما ولد الاحتكاك الدائم بين مجتمع التحولات وبين مجتمعاته التي تضغط من اجل استيعابها.
ونجد ان اقرب المفاهيم لاستيعاب الذات الاجتماعية للفرد السوداني يكمن في السودانوية الذي يعبر عن كل المجتمعات التي صاغت مع حركة التاريخ مجتمع التحولات لاستيعاب التحولات الاجتماعية وعلى النخب استيعاب إنسانية تلك المجتمعات من خلال مرحلة تحولاتها ضمن الكلية السودانوية.
اما الاخر فيصبح هو الاخر الإنساني المختلف داخل أو خارج الكلية الثقافية، اما الاخر الضد فهو الذي يفرض ذاته ورؤيته على الكل، فإذا اخذنا بمقاييس اليوم فان الاخر للإنسان السوداني هو المتمثل في الدول الأخرى، فاذن الاخر الضد من تلك الدول هو الذي يسعي إلى فرض ذاته ورؤيته على الإنسان السوداني. فنجد ان عدم استيعاب الذات الكلية وتحديدا في تحولات اليوم التي اصبح بها كل المجتمعات على مستوى العالم منظورة على مستوى وعى الذات، عدم الاستيعاب ذلك هو الذي يؤدي إلى عدم وجود رد فعل حقيقي تجاه الاخر الفعلي وليس الاخر المتوهم من قبل الرؤى النخبوية التي تسيطر عليها مفاهيم وقيم لا تنبع من الواقع السوداني. فعدم اعطاء تعريف كلي للذات السودانوية قاد إلى ان تتخير تلك النخب اخر وتسميه بالضد للكل السوداني دون ان يكون هو في الحقيقة ضد بناء على تعريف الضد السابق الذي يتمثل في الفرد أو المجتمع الذي يفرض ذاته ورؤيته على المجتمع السوداني، فذلك الاخر المتوهم هو اخر للرؤية النخبوية التي لا تمت إلى الواقع بصلة.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الرسالات الإرشادية بعيدا عن التدوين العربي (2)

من الانتفاضة إلى الثورة السودانية (1)