على خلفية مناقشات كتاب نبوة محمد (1-2)




مدخل أول:
عندما ينخفض صوت الرصاص والموت نهرع سريعا إلى ميادين الفكر ليس هروبا من السياسية وازماتها ولكن لقناعتنا بان الازمة السياسية هي جزء من أزمة كلية ترجع لعدم وجود مشروع فكرى سوداني يعرف الذات السودانية والمجتمع ويستوعب قيمهم والتي من ضمنها كيفية ادارة الدولة (السياسة). ولذلك نحاول ان نسير بين الاني وهو الازمات السياسية عندما تصل إلى شفير الموت لنقول لا للمؤتمر الوطني الذي هو خلف كل إنسان يموت وكل إنسان يعطش وكل إنسان يجوع في دار فور أو جنوب كردفان أو النيل الازرق وكل بقاع السودان الأخرى. نحاول ان نسير بين ذلك الاني وبين محاولة انجاز مشروع فكري سوداني. فيجب ان لا يعتبر اهلنا في جميع بقاع السودان ان مقارعتنا للاسلاميين أو للعلمانية هو تجاهل للحروب الدائرة والمجاعات ولكن لان رؤيتنا للحل تكمن في وجود رؤية فكرية سودانية تتخطي الرؤية العربية الإسلامية والرؤية العلمانية ونحاول ان يتبلور المشروع الفكرى قبل التفكك القادم عندما نقول كان هنالك ما يسمي بالسودان ويصبح هنالك مشروع ولكن لا يوجد واقع، فنحن حقيقة امام معضلة ان نكون كدولة ومجتمع واحد أو لا نكون فلا وجود لمفاهيم مثل التعدد وغيرها التي اوجدتها النخب النيلية كفكرة مريحة لا تحتاج إلى تعب. فقد ادمنت تلك النخب هروبها من واجبها ومحاولة استيعاب الثقافة السودانية كهوية واحدة جامعة للكل السوداني وارجعت بالتالي الثقافة إلى مرحلة سابقة من التحولات ولجات إلى تعريفها عرقيا وقبليا مما اوجد مفهوم التعدد الذي اصبح ملازم لتعريف السودان (السودان بلد متعدد الثقافات والاعراق والاديان..) ويوجد ذلك التعريف في كل ادبيات التنظيمات السياسية الاسلاموية والعلمانية. وهو التعريف الذي نعده جزء من الازمة.
مدخل ثاني:
حقيقة لم اتمكن من اقتناء الكتاب فوجودك داخل الدولة السودانية يعني انك إنسان فاقد الاهلية وتحتاج إلى رقابة ذاتية ويعني ارتهانك لارادة المؤتمر الوطني التي تحدد لك ما تقراه وما تشاهده....، وفي هذه الفرصة نشكر الشبكة العنكبوتية التي اتاحت لنا امكانية لتجاوز تلك السلطة. ولذلك اريد ان اركز على كتاباتـ د. حيدر إبراهيم كواحد من اكبر المفكرين السودانيين العلمانيين وكذلك تعليقات د. محمد احمد محمود صاحب الكتاب باعتبارهم من مدرسة واحدة.

النخب السودانية بين الرؤية العربية والرؤية الغربية:
لقد اختارت النخب السودانية الجانب السهل من الفكر عندما لجأت إلى الاجابات المعلبة من قبل الرؤية العربية أو الرؤية الغربية واخذ كل منهم اتجاهه ينهل من تلك الرؤي والافكار ويجاوب على أسئلة الواقع من داخل واقع مغاير تماما مما جعل النخب في وادي والمجتمعات في وادي اخر.
ولذلك نتمني من د. حيدر إبراهيم (وكلنا يعلم من هو حيدر إبراهيم كقامة سودانية سامقة اجتماعيا وفكريا، ولكن هل كان نضاله السياسي والفكري الطويل يصب في مصلحة الثقافة السودانية ذلك ما سوف نراه) نتمني ان يعذرنا في ان نضمه إلى النخب السابقة التي قال فيها (.. ومقلقة لايمان العجائز الذي يتمناه المثقفون السودانيون كسالي العقل، وخامدو الروح والحس ..)، اما نحن فنصف النخب السابقة ومن ضمنها د. حيدر إبراهيم نصفها بالهروب من أداء ضريبة الإنسان النخبوي عندما يشكل عالمه بنفسه من خلال انتقاله من حالة اللا-توازن أو عدم الايمان الكامل بالواقع سلوكا وفكرا إلى طرح الأسئلة الكلية والجزئية عن الحياة وايجاد الاجابات لها، وهي ضريبة غالية التكلفة لان الإنسان في تلك اللحظة يعمل على تشريح ذاته ويتحول إلى ناقد دائم، إلى ان يبني فكرته الكلية عن الحياة ويعكسها للمجتمعات في شكل سلوك ومفاهيم بسيطة تستطيع ان تستوعبها تلك المجتمعات. ولان اخلال أي فرد بدوره في الحياة يؤدي إلى قصور جزئي داخل مجتمع ذلك الشخص فما بالك بالانسان النخبوي الذي ينتظره كل المجتمع وليس مجتمع محدد.
وليعذرنا مرة أخرى د. حيدر فعدم بناءه لرؤية كلية عن الحياة ومن ضمنها الدين هي التي اقعدته عن مقارعة الفكر الإسلامي وليس صبية الحركة الإسلامية كما يسميهم، ولذلك خضعت النخب العلمانية لسلطة الحركة الإسلامية في موضوع الدين ولم تستطع تلك النخب ان تقود جدل حقيقي مع الاسلاميين. ولا يصر د. حيدر على اخفاء رؤيته عن الدين في ذلك الزمان فقط (الديمقراطية 1985م) ولكن إلى الان عندما يتحدث عن ان الفلسفة والدين لا يمكن ان يجتمعان والحوار بينهم هو عبارة عن حوار بين "الصم" باعتبار ان أدوات "منهج" كل منهما يختلف عن الاخر (فالمعرفة أو التجربة الدينية اداتها الذوق والحدس، وليس النظر والعقل- حيدر إبراهيم). وحقيقة نحتار لمفكر كبير مثل حيدر إبراهيم ان ينفي تلاقي الفلسفة والدين نتيجة لاختلاف المنهج ومن قال ان اختلاف المنهج يعني عدم امكانية التلاقي. و د. حيدر من أكثر العارفين بان الدين والفلسفة مجالهم الأسئلة الكلية والجزئية عن الحياة والإنسان، ولكن ما لا يستطيع ان يقوله صراحة حيدر إبراهيم قد قاله محمد احمد محمود بان الفلسفة العلمانية تتقاطع مع الفكر الإسلامي تماما وان اعتناق الفلسفة الغربية يعني الكفر بالفكر الإسلامي فهل يستطيع حيدر إبراهيم قول ذلك.
وحقيقة ليس حيدر إبراهيم فقط ولكن كل النخب العلمانية لم نري لها اختراق كما وجدنا عند النخب السودانية التي تؤمن بالرؤية العربية فمن محمد احمد المهدي إلى محمود محمد طه والترابي والصادق كل تلك كانت محاولات ولو خجولة لاختراق الرؤية العربية ومحاولة ايجاد موطئ قدم لرؤية سودانية فهل حاولت النخب العلمانية السودانية ولو محاولات خجولة لصالح الثقافة السودانية، كل القارئ للفكر السوداني يعرف ان محاولة محمد احمد محمود هي الأولي بالنسبة للنخب العلمانية، فهل حاول حيدر إبراهيم من خلال كتاباته الكثيرة في الفكر ان يحدث أي اختراق ام كانت تلك الكتابات عبارة عن نقل حرفي لفكر الثقافة الغربية (راجع كتابات حيدر ابراهيم)، فهل حاولت النخب العلمانية مثلا استيعاب مفهوم ديمقراطية الفرد من داخل الواقع السوداني وهل شرحت لنا اين تكمن سلطة القبيلة والعشرية داخل دولة تعتمد على ديمقراطية الفرد ام حولت الديمقراطية إلى كلمة صماء مثل مصباح علاء الدين السحري فسمعنا ان الديمقراطية هي الحل كما سمعنا ان الإسلام هو الحل، وهل حاول رؤية المادية التي هي المقياس الأول في الفكر الغربي داخل واقع يعتمد على الانتماء المعنوي، مع تركنا لموضوع الدين الذي عالجته الثقافة الغربية في تحولاتها التاريخية السابقة وأصبحت لا تقيس عليه باعتباره من المفاهيم المعنوية.
اما أزمة حيدر إبراهيم مع الحركة الإسلامية التي وجدها بين ليلة وضحها تتوسد جسد الدولة السودانية ويقف هو عاجزا عن مواجهتها فيرجع له في الأساس ويرجع لنا كلنا نتيجة لعملية هروب حقيقي عندما عرفنا نفسنا كمجتمع وسط نيلي والدولة السودانية عامة من خلال ثنائية العروبة والإسلام، فتلك الفكرة التي تريح الفرد من رهق البحث هي التي اوردت كل السودان مورد الهلاك. فحتى التعريف الذي انتشر اخيرا في كل ادبيات الفكر السوداني (السودان دولة متعددة الثقافات والاعراق والاديان) هو تعريف يريح النخب من البحث عن هوية جامعة للكل السوداني فقد ارجعت تلك النخب الثقافة إلى مبادئها الاولية وسارت عكس مجري التاريخ لتخبرنا عن الاعراق والقبائل كانها اخترعت الذرة. إذا ما فعلته النخب السودانية التي تنتمي إلى الرؤية العربية هي اخذ المتخيل داخل مجتمعات الوسط عن ذاتها وعن الدولة السودانية، وقد قامت النخب السودانية العربية بنقل كل الرؤية العربية داخل الواقع السوداني عكس النخب العلمانية التي اجتزأت جزء وأصبحت تخضع لسلطة النخب العربية في الجزء الاخر، فعندما تذكر النخب السودانية العربية مثلا ان خير الأسماء ما حمد وعبد فهي توجه ضربة للنخب العلمانية التي لا تستطيع ان ترد مما جعلها متفوقة عند المجتمع، وعلى ذلك قس. وفي الاخر ونتيجة لتمسكنا بالهوية العربية في مجتمع الوسط شاركنا ضمنيا فيما حدث وما يحدث اليوم داخل الدولة السودانية، فتلك الهوية عبارة عن رؤية لا تجزا ولكنها استطاعت ان تجزئنا.
ولاننا لا نتحدث عن فكر الثقافة الغربية في اطاره التاريخي ولكن نتحدث عن المنتمين لذلك الفكر داخل السودان، ولذلك ندرك ان د. حيدر هو السبب في بوار سلعته عن ديمقراطية الفرد داخل السودان وليس نظرية المؤامرة التي يتمسك بها كل من يفشل في توصيل رؤيته، فهل يصدق المجتمع احساسه بوجود مجتمع حقيقي تتفاوت فيه قيم الافراد، أو يصدق كلام حيدر عن ان المجتمع عبارة عن تجمع بشري يتساوي فيه الجميع وتتفاوت مقايسهم باختلاف اضافتهم المادية. واين تعريف الذات الذي اقعد بالدولة السودانية فما هو السوداني باعتبار ان تعريف التعدد هو تعريف مضاد لديمقراطية الفرد فلا حاجز بين الفرد والدولة في الدول العلمانية التي لا يوجد بها مجتمعات وسيطة مثل القبيلة ولكن يوجد بها تجمعات ذات مصالح مادية مثل النقابات.
مع اعترافنا ل د. حيدر بمكانته الفكرية ولو كانت من خلال نقل الرؤية الغربية حتى تستطيع المجتمعات السودانية ان تري قصور الرؤية العربية في السياسة تحديدا وعجزها في ادارة الدولة، ولكن نحن نري ان الزمان قد ان ليكون هنالك فكر سوداني يستطيع ان يقارع الرؤية العربية التي تتخفي خلف الإسلام والرؤية الغربية التي تتخفي خلف العلم.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الرسالات الإرشادية بعيدا عن التدوين العربي (2)

من الانتفاضة إلى الثورة السودانية (1)