من الانتفاضة إلى الثورة السودانية (2)


دعوة للشباب والنخب الصاعدة
مدخل:
ان هروب النخب السابقة من الاستحقاق النخبوي قادها إلى اخذ مفاهيم الاخر كما هي بكل ما تحتويه من قيم داخلها وسلوكيات وحاولت استيعاب الواقع من خلال تلك القيم والمفاهيم فكان اعتبار الإنسانية داخل الواقع يعتمد على مقاربة الواقع لتلك المفاهيم والقيم السلوكية، فالإنسانية بالنسبة للفكر العربي هي مقاربة المجتمع للقيم والسلوكيات العربية، وكذلك الإنسانية بالنسبة للفكر الغربي هي مقاربة المجتمع للقيم والسلوكيات الغربية، وبالتالي أصبحت المفاهيم في الفكر العربي والغربي عبارة عن مفاهيم بديهية لا تحتاج إلى اعادة تعريف وبالتالي لا يحتاج الواقع إلى اعادة استيعاب. ولانها مفاهيم لا تنتمي إلى الواقع اصبح الانتماء للمفهوم فقط يعني الانتماء إلى الإنسانية، فمن يقول بالإسلام والله اكبر هو إنسان عند جماعة الفكر العربي الإسلامي وذلك بغض النظر عن سلوكه، وكذلك من يقول بالديمقراطية والعلمانية هو إنسان عند جماعة الفكر الغربي، فقصور الفعل عند تلك الجماعات وغيرها ناتج عن قصور الواقع وليس قصور الفكر، وهو ما تم ترحيله حتى داخل الانتماء الجزئي في الفن أو الرياضة، ففي الرياضة مثلا فان الانتماء للهلال يعني انتماء للإنسانية عند مشجعي الهلال، ولذلك لا يري المشجعين القصور في الفريق فانهزام الهلال مثلا يرجع إلى اما إلى قصور في التحكيم أو المدرب أو غيره ولكن لا يرجع إلى قصور في أداء الفريق داخل الملعب، ولذلك لا يوجد في التحليل أو النقد الرياضي اثر اللاعب على الفريق فلا نجد مثلا اثر تحركات اللاعب داخل الميدان على الفريق وعدد التمريرات الخطأ والصواب واجادته لخانته وغيرها من مما نجده في النقد الرياضي.
اذن لا يعني ذلك عدم الاستفادة من التحولات لدي الثقافات الأخرى ولكن تلك الاستفادة تنبع من استيعاب الواقع أولا وفصل المفاهيم عن قيمها السلوكية حتى يتم استيعابها بناء على الواقع، في استيعاب علاقة الإنسان مع الإله، أو علاقة الإنسان مع المجتمع والاخر.

فلسفة التحولات الاجتماعية:
بدات التحولات الاجتماعية مع بداية الحياة الإنسانية من مجتمعات عشائرية أو قبلية إلى ان وصلت إلى مرحلة التحولات الثقافية والمجتمع الإنساني الواحد، ومع تلك التحولات كان يتم توظيف الإنسانية من خلال الكلية المجتمعية أي ان تستوعب تلك القيم والسلوكيات الجزئية الكل المجتمعي، إذا كان في السياسة أو الاقتصاد أو غيره من السلوكيات، ومن هنا نجد الثقافة عبارة عن مرحلة تحولات تأتي بعد المرحلة العشائرية والقبلية وعند البحث عن الكلية نجدها في تجليتها السلوكية والقيمية والتي تنعكس على الواقع في شكل مفاهيم تلبي قيم محددة إذا كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، ولذلك عندما تكون تلك المفاهيم تعبر عن كل افراد الثقافة تكون التجليات الاقتصادية وغيرها تصب في مصلحة الكل اما إذا كان الفكر لا يعبر عن كل افراد المجتمع فان تلك الأفكار تتقاطع مع الواقع وتؤثر سلبا بالتالي على تجليات الثقافة.
ان فلسفة التحولات الاجتماعية بالنسبة للثقافة السودانية تحاول ان تتواصل مع الكل واستيعاب ترميزهم للإنسانية داخل الكل السوداني فهنالك من يقف في مرحلة مجتمعات ما قبل الثقافية وهي المجتمعات القبلية والعشائرية وينتظر استيعابه كما هو من قبل النخب، وهنالك من وصل إلى المرحلة الثقافية ولكن تم فصلة عن الكلية باستيعابه داخل الفكر والقيم الثقافية العربية أو الغربية، فالمرحلة القبلية أو العشائرية في نظر فلسفة التحولات الاجتماعية هي مرحلة من مراحل التحولات الاجتماعية في اتجاه المجتمع الثقافي فاستيعابها كما هي الان لا يعني تثبيت مرحلة تحولاتها ولكن يدفعها لاستيعاب ذاتها واتجاه تحولاتها ضمن الكل السوداني، اما بالنسبة لمجتمع التحولات (مجتمع الوسط) ونتيجة لفصله عن الكل المجتمعي السوداني واعتباره مجتمع قائم بذاته وليس مجتمع تحولات فقد اتجه إلى الكيانات الجزئية في سبيل تحقيق انسانيته نتيجة لعدم وجود كلية تستوعبه ضمن الثقافة السودانية فلجا إلى كيانات جزئية في السياسة أو في الرياضة أو في الفن للتعبير عن ذاته، ففي الفكر السياسي اتجهت النخب إلى الفكر العربي أو إلى الفكر الغربي، وفي الفكر العربي نشات المنظمات والتنظيمات الإسلامية والتي تتقاطع مع الواقع نسبة لاعتمادها على قيم سلوكية تاريخية تم اعتبارها بمثابة قيم خلاص انساني، واصبح كل فرد لا يقول بتلك القيم والافكار هو ليس بانسان عند ذلك الفكر مما ابعد جزء من الكل الثقافي، ففلسفة التحولات الاجتماعية تستوعب أولئك الافراد من خلال استيعاب الرسالة الإلهية وارجاعها إلى اصلها باعتبارها رسالة ارشادية وليست رسالة قيمية فهي في حقيقتها رسالات تدعو إلى استيعاب الواقع كما هو وليس تحور ذلك الواقع، مما يعني ان الإسلام ليس رسالة قيمية ولكنه دعوة إلى استيعاب الواقع والتاثير فيه بالإرشاد، فنجد ان دلالة الرسالة لا تكون الا من خلال استيعاب الواقع أي لا توجد رسالة قيمية مباشرة. اما الافراد الذين اتجهوا إلى الفكر الغربي فان فلسفة التحولات الاجتماعية تري الذات الاجتماعية كجزء جيني من الفرد فالمجتمع ليس خارج الفرد ولكن داخله، وكذلك ليس هنالك قيم ثابتة للطبيعة ولكن يتم التكامل العضوي بين الإنسان والطبيعة عند مرحلة التحولات التي يوجد بها، أي يجب عدم فصل الإنسان عن الواقع الذي يوجد به ولكن يجب استيعابه من خلال التكامل بين الإنسان وذلك الواقع، مما يقودنا إلى ان كل القيم التي تقول بها الثقافة الغربية هي قيم ثقافية وليست قيم علمية تؤدي إلى الخلاص الإنساني عند اتباعها.

مفهوم السودانوية:
ولايجاد مفهوم جامع للكل السوداني تقول فلسفة التحولات الاجتماعية بالسودانوية (حتى نخرج من التصنيف الإسلامي والعروبي والعلماني) وهي محاولة لنقل المجتمع من القيم والترميز القبلي إلى المرحلة الثقافية، وتقوم السودانوية على تجاوز تلك الأفكار الواردة من الثقافات الأخرى واستيعاب الإنسان السوداني كانسان كما هو وليس عند دخوله الإسلام أو عند دخوله لميدان العولمة. فالتحولات داخل الثقافة السودانية تختلف من مجتمع إلى اخر فيجب استيعاب الفرد كانسان من خلال النظر اليه واستيعابه كما هو أي ليس من خلال التقييم الإسلامي أو الحداثي ولكن من خلال نظرة ذلك المجتمع لنفسه إذا كانت قبلية أو عشائرية أو غيرها وكذلك استيعاب قيمه كقيم إنسانية. فكل مجتمع تحتوى اغلب منظومة قيمه على قيم تعمل على تحقيق الإنسانية للفرد والمجتمع ولكن تكون هنالك جزئية من القيم كانت من المفترض ان تسقط مع التحولات ولم تسقط فيجب على النخب ارشاد المجتمع إلى تركها وليس الزامه على تركها.
فالسودانوية هي إذا اعادة استيعاب للرسالة الإلهية كرسالة ارشادية ودعوة إلى استيعاب الواقع وليس تشويهه وتحويله إلى واقع اخر، فالرسالة لا تدعو إلى تغيير اسماء مثل كوال ودينق وشول مثلا إلى احمد ومحمد وخالد فذلك تشويه للواقع ولكن الرسالة تسعي إلى استيعاب القيم والإنسانية للكل الاجتماعي وليس تغيير القيم وتغيير الواقع. وكذلك العلم في تلك الرؤية هو استيعاب الواقع كما هو وليس بنا على واقع اخر وكذلك الوعي بالتكامل العضوي بين الإنسان والطبيعة وليس فصل الإنسان عن الطبيعة.

الدعوة إلى ميثاق السودانوية:
ان المرحلة الحالية من عمر الثقافة السودانية تختلف عن كل المراحل السابقة، ولذلك فالميثاق عبارة عن دعوة للنخب الصاعدة والقوي الحديثة والشباب تحديدا من اجل تجاوز التحجر الذي تمارسه القيادات القديمة دون محاولة للتواصل مع الشباب. فتلك القيادات والنخب قد ادمنت التلحف بفكر الاخر إذا كان العربي أو الغربي وقد فرضت ذلك الفكر على زمنها وتحاول ان تفرضه على الزمن الحالي ايضا. وللاسف فهي تواصل في ذلك الزمن دون أو تتواصل مع الواقع ولو جزئيا فهي تعيش في عصر المهاترة بين الايدولوجيات العروبية أو الاسلاموية أو الماركسية، فذلك العصر وهو عصر الستينيات والسبعينيات من القرن السابق قد تجاوزه الواقع ولذلك نجد ان حالة الانفصام تلك في الاحزاب مثلا ليست في تنظيم محدد ولكنها داخل الواقع ككل، فلو نظرنا نجدها في كل التنظيمات من تنظيم المؤتمر الوطني الذي فرخ أكثر حالات الشباب تزمرا أو الحزب الاتحادي الذي يشارك في النظام بينما شبابه في كل مكان يدعون إلى اسقاط النظام أو حالة الحزب الشيوعي التي كانت ولادة حزب جديد هو حركة حق نتيجة لتحجر الحرس القديم عند النظرية الماركسية دون المحاولة لمقاربة الواقع.

خاتمة:
فالناظر إلى تحالفات المعارضة نجدها تقوم على المتناقضات التي لا تؤمن بإنسانية بعضها بعضا فما معني ان يكون الحزب الشيوعي والشعبي في تحالف واحد دون ان يؤمن احدهم بإنسانية الاخر، ومن هنا فهي أولا دعوة للتنظيمات البرامجية التي لا ترتكز على الفكر الغربي أو العربي إلى تبني ميثاق السودانوية فيما بينها وهي التنظيمات الحديثة (المؤتمر السوداني والتحالف السوداني وحركة حق) بالإضافة إلى الشباب داخل وخارج التنظيمات الأخرى. فهي مرحلة يجب المرور بها حتى ننتقل من فكر الاخر الذي سيطر طويلا على الواقع السوداني، فالناظر إلى خريطة الاحزاب السودانية نجد ان التركيز لازال على الفكر الاسلاموي والعروبي والماركسي، فيجب على الاحزاب الحديثة ان تفعل دورها في المجتمع وتدعو إلى مرحلة الفكر السوداني والإنسان السوداني، واولا وقبل كل شيء يجب على تلك الاحزاب ان تسعي إلى ديمقراطية تري الإنسان السوداني كما هو وليس ديمقراطية الفرد التي تعتمد على الثقافة الغربية وقيمها. حتى نتحول من حالة الضد إلى حالة التكامل الإنساني فعندما تكون كل الاحزاب في قيمها العليا تدعوا إلى السودانوية فعندها تكون تلك الاحزاب مكملة لبعضها البعض وتختلف في برامجها فقط. وبذلك نخرج من المصطلحات التي يتم استخدامها من قبل الفكر العربي أو الغربي في سبيل رفض الاخر واقصائه فقط وهي مفاهيم الشريعة الإسلامية والعلمانية التي هي في حقيقتها تعني الثقافة العربية والغربية ولا تعني الثقافة السودانية. وعندها فقط يمكننا القول للمجتمع ان البديل هو انت هي كل إنسان سوداني أي السودانوية وان الرسالات الإلهية والقيم العلمية التي جاءت مع الفكر العربي والغربي هي عبارة عن قيم ثقافية وانما الرسالة الإلهية الحقيقية هي رسالة ارشادية لاستيعاب الواقع والقيم العلمية الحقيقية هي استيعاب الواقع كما هو وان الإنسانية تعني كل إنسان سوداني وليس المسلم أو العلماني.

التغريد خارج السرب لا للحوار الايدولوجي
تحاول الحركة الإسلامية منذ فترة عند ادراكها بفشل مشروعها الحضاري بالتقارب مع الرؤى الأخرى لمحاولة ايجاد مخرج للقصور الذي اعتري مشروعها، فقد وضح للحركة الإسلامية وتحديدا شبابها الذي يلامس الواقع ان انزال الفكر على الواقع قد اوجد كثير من الازمات المجتمعية الداخلية ولكن الطوباوية التي ينظر بها اعضاء الحركة الإسلامية لفكرهم هي التي تؤدي إلى اعتبار ان فشل التجربة يرجع إلى الواقع وليس إلى الفكر. وهو ما وضح جليا حتى في دعوة الحوار الاخيرة من النائب الأول فلم تمضي عدة ايام على حديثه حتى تبعه بحديث اخر من كسلا يوضح فيه نوعية الحوار بأنه حوار يخضع لثوابت الحركة الإسلامية التي ترى فيها ثوابت لكل السودان.
ولا يرجع اعتقال السودان داخل الفكر إلى الحركة الإسلامية ولكن لكل النخب السابقة التي رمزت السودان كوطن داخل مجتمع الوسط وفكره وحاولت ايجاد توليفة توافقية أو تلفيقية بين الثقافة السودانية وبين ما يحتويه فكر ومجتمع الوسط، وما لم تجد له حل النخب السابقة هي وضعية مجتمع الوسط بالنسبة للكل السوداني وكذلك الفكر العربي الإسلامي والفكر الغربي، فقد عامل ذلك الفكر مجتمع الوسط كمجتمع قائم بذاته وفي نفس الوقت عبارة عن ترميز للدولة السودانية، وهو ما نراه واضحا عندما دعت الحركة الإسلامية إلى الحوار وحاولت التواصل مع الكل السوداني في نظرها، وكحسن نية وتاكيد على جدية الحوار تم اطلاق سراح السبعة الذين ينتمون إلى مجتمع الوسط باعتباره اطلاق سراح للكل السوداني حسب مخيلة الحركة الإسلامية، فهل هؤلاء السبعة يمثلون كل المعتقلين السياسيين لدي الحركة الإسلامية؟ وقطعا ستتم الإجابة بلا فهنالك معتقلين دارفور وجنوب كردفان والنيل الازرق بين سياسيين وعسكريين فاين هؤلاء من حسن النية تلك.
وحتى تخرج الحركة الإسلامية وغيرها من التنظيمات السياسية من اعتقال السودان داخل فكرها فقط عليها ان تعي ان السودان اكبر من كل الفكر المتواجد الان على مستوى نخب الوسط التي ازمت الواقع السوداني منذ الاستقلال وحتى الان ليس الا، فإذا أرادت الحركة الإسلامية وغيرها من التنظيمات الحوار حول الازمة السودانية والتحدث عن الثوابت عليها ان تعي ان السودانوية وانسانها هو الثابت الواحد وليست ثوابت الحركة الإسلامية وغيرها من التنظيمات والاحزاب، والسودانوية تعني ان هنالك حقوق إنسانية بديهية لكل المجتمعات السودانية لا تخضع للمساومات ولا لمفهوم الاقلية والاكثرية، ومن تلك الحقوق حق الإنسانية في الحياة، فعلي الدولة ان تري الإنسان من خلال تعريفه لذاته وليس تعريف تنظيمات واحزاب الوسط له، حتى نخرج من تعريف مسلم وكافر أو تعريف القومية العربية أو القومية الافريقية أو العلمانية، فالإنسان هو الذي يعرف ذاته لنفسه وللاخر وليست الدولة، إذا كان ذلك التعريف بالديانات من مسلم ومسيحي أو دين اهلي، أو إذا كان التعريف بالمجتمعات القبلية أو العشائرية أو غيرها فعلي الدولة ان تستوعبه وقيمه كما هو لا ان تفرض عليه تعريف وقيم أخرى.
والى ان يتحقق ذلك الحوار الجاد وليس الحوار الايدولوجي الذي تريده الحركة الإسلامية وغيرها من التنظيمات السياسية التي عملت من الثقافة السودانية ساحة للجدل والمعارك بين الفكر العربي والغربي عندما لم تستطع ايجاد فكر سوداني (وتم اعتقال السودان داخل الفكر واعتقال الفكر داخل السياسية)، فإلي ان يتحقق ذلك الحوار فان همنا الأساسي يبقي في الدفاع عن المجتمعات الأخرى من خلال تاكيد حقها في ان تعرف ذاتها كما هي ليس كما يريد ان يعرفها الفكر النخبوي لمجتمع الوسط وان تجد حظها من الحياة ولو بالانفصال عن مجتمع الوسط إذا كانت مجتمعات دارفور أو جنوب كردفان أو النيل الازرق أو غيرها من المجتمعات التي لا تري ذاتها في الدولة السودانية. ونحن هنا نعي تماما ان مجتمع الوسط هو ممثل لكل المجتمعات من خلال التحولات الاجتماعية باعتباره مجتمع تحولات للكل السوداني، ولكن مادام ان مجتمع الوسط ذلك معتقل داخل الفكر العربي والاسلامي والغربي الذي يعتبره مجتمع قائم بذاته ويبعده عن المجتمعات الأخرى المكونة له ويتم تعريف ورؤية الدولة من خلاله فاننا لا نري حل للازمة السودانية الا بتفكيك ذلك الفكر أو تفكيك السودان.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الرسالات الإرشادية بعيدا عن التدوين العربي (2)

من الانتفاضة إلى الثورة السودانية (1)