حول مفهوم الدين والعلماء في الرسالة العربية المحمدية (5)




من منظور فلسفة التحولات الاجتماعية
خلاصة:
ان فلسفة التحولات الاجتماعية لا تنظر إلى الدين كطقوس سلوكية ولكن تنظر إلى الرسالات الإلهية كرسالات ارشادية كاملة وترى ان الاختلاف الذي تولد داخل تلك الرسالات عن مغزاها الحقيقي يرجع إلى قصور نخبوي في الأساس، فلم تقم النخب بدورها المفترض ان تقوم به داخل مجتمعها، وهو الوعي بذلك المجتمع وارشاده إلى ذاته الكلية وبدلا عن ذلك لجأت إلى الوعي المجتمعي ودونته باعتباره وعي بالرسالة مما جعل المجتمع متجاوزا للنخب في انتاج قيمه وسلوكياته.
فالقيم السلوكية التي اعتمدتها النخب العربية كقيم خلاص إنساني منزلة من السماء هي عبارة عن قيم مجتمع الرسالة، وقد اخذتها الرسالة وعممتها حتى تستوعب المجتمعات والنخب العربية التحول من المجتمعات القبلية إلى المجتمع الثقافي، فتلك القيم هي قيم المجتمع المكي الذي كان يمثل مجتمع التحولات بالنسبة للمجتمع العربي عامة، وقد استخدمنا المنهج التاريخي لزيادة التأكيد بان العبادات والمعاملات كانت توجد قبل الرسالة، وحتى عندما لا نجد تدوين مباشر لتلك القيم فاننا نبحث عن مقاربات لها فمثلا في قانون الميراث الجاهلي الذي لم نجد له تدوين مباشر ولكن كانت هنالك من شواهد ما يؤكد ذلك الاتجاه وهو المال الذي دونه التاريخ عند السيدة خديجة، فذلك المال لا يمكن ان يكون جاء من عمل المراة فذلك المجتمع كان لا يسمح بعمل المراة المباشر ولذلك عندما احتاجت خديجة إلى العمل بمالها في التجارة لم يكن امامها الا ان تستخدم احد ما من الرجال للمتاجرة باسمها، فذلك المال لا يدلنا مباشرتا على انه كان هنالك قانون للوراثة عند مجتمع التحولات ولكن يدلنا إلى ان الطريق الوحيد لإتيان ذلك المال للسيدة خديجة هو عن طريق الوراثة. وحقيقة نحن لسنا في حاجة إلى التدوين التاريخي إذا استوعبنا فلسفة التحولات فنستطيع من خلالها رؤية التاريخ وكيفية فعله اما التدوين فيساعد على توضيح الأجزاء ليس إلا.
وكذلك في قيم الحرام والحلال كقيم مجتمعية أوضحنا ان قيم التحريم تلك هي قيم المجتمع العربي في ذلك الزمان إذا كان الخنزير أو الخمر أو غيره وقد اوردنا ان التحريم أو التحليل في ذهنية الإنسان يماثل القيمة المطلقة، وأوردنا ان ليس هنالك مطلق في داخل الحياة الإنسانية فكل الأشياء تتفاوت نسبيتها بين نفعها وضررها أي داخل كل الأشياء الطبيعية يوجد جزء ضار وجزء نافع ولذلك جاء الإرشاد وتحديدا في الخمر لإلحاح المجتمع العربي عليها في التوعية بتلك الجزئية (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)). ولاستعجال المجتمعات لتحويل ذلك المعني إلى قيمة سلوكية محددة تم اعتبار الاية التي تنهي عن الخمر باعتبارها تحريم وتابعتها النخب في ذلك بان الخمر مضرة كلية وان النفع الذي جاء في الاية قصد به النفع المادي وما إلى ذلك ثم تجرات وحرمت الخمر كليتا (وما اسكر كثيره فقليله حرام) باعتباره تحريم من الإله، ولكن بعد ظهور ان للخمر أو الكحول فوائد وذلك بدخوله في الادوية والمطهرات الجروح وغيره تولد الحديث باسم الإله أي لم تقل النخب انها دونت الوعي المجتمعي للرسالة ولكنها اصرت بان ذلك التدوين هو تدوين للرسالة الإلهية كما هي فلم يكن امامها الا ان تقوم بدور الإله في الارض وتغالط نفسها وتغالط الإله في رسالته، فكيف لشيء ان يكون ضار كليتا ونافع في نفس الوقت!. بذلك علي النخب ان تستوعب ان الانسان يتكامل مع الطبيعة فليس هنالك قيمة كاملة بذاتها أي مفهوم الخير والشر والذات والاخر الضد والابيض والاسود ينتفي تماما عند مرحلة التحولات الثقافية فكل الحياة تعتمد على النسبية وعلى مرحلة التحولات الاجتماعية التي يوجد بها المجتمع.
وكذلك حديثنا عن قيمة الزواج فالزواج الإسلامي هو الزواج عند المجتمع الجاهلي في ارفع قيمه (راجع المدونة وكتاب الزواج في الجاهلية والاسلام)، وبعد ان تحدثنا عن كل ما يسمي بالمعاملات ولتأكيد ان الرسالة الإلهية لم تأتي بقيم سماوية تحدثنا ايضا عن العبادات، وراينا من خلال التاريخ ان كل العبادات التي تسمي بالإسلامية كانت تمارس في الجاهلية إذا كانت الصلاة أو الصيام أو الزكاة أو الحج، فالمفاهيم كانت من الإله اما القيم السلوكية التي استوعبت تلك المفاهيم فقد كانت من الإنسان ولكن ما كان الاختلاف فيه هو المعاني التي جاءت من اجلها تلك المفاهيم. فانشغلت المجتمعات ومن بعدها النخب بالمفهوم والقيمة وتركت المعني ولذلك نجدها قد الفت كتب في كيفية الصلاة واركانها والحج والصيام اما المعاني وعلاقة تلك المعاني بالكلية هو ما ظلت النخب تراه من خلال وعي المجتمع العربي في زمن الرسالة، ورغم استخدام نفس المفاهيم للعبادة في الرسالات السابقة إذا كانت الصلاة والصيام والزكاة عند اليهود أو عند المسيحيين أو غيرهم، ولكن ذلك لم يوقف المجتمعات التي تري ذاتها فقط وما عداها عبارة عن اخر ضد ثم تابعتها النخب لتقول ان الشكل السلوكي للعبادة العربية هو المقصود بذاته وليس بمعناه.
ففي العبادات نجد ان الرسالة العربية قد ذكرت ان كل المجتمعات قد مارست العبادات كما تراها المجتمعات العربية لحظة التدوين، فقد جاءت الرسالة العربية بذلك التنبيه حتى تستوعب النخب والمجتمعات المغزى من وحدة المعاني العبادية وليس وحدة السلوك. فوصف الإله للمجتمعات السابقة في الرسالة العربية بان كل الرسالات الإلهية احتوات على الصلاة والصيام والزكاة (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55))، ليس معناها تلك الطقوس السلوكية التي في الوعي المجتمعي العربي ولكنها تعني ان كل الرسالات جاءت كاملة المعاني في تعريف الإنسان بالإله المتعالي أو تعريف الإنسان بالذات والاخر وعلاقته بالطبيعة، وبذا يكون القصور من الإنسان الذي يوحد بين الرمز والمعني.

وبعد ان تحدثنا عن كيف وحدت الرسالة الذات الكلية لمرحلة التحولات المجتمعية بتوحيد الترميز السلوكي للكل العربي، وكان ذلك بتعميم القيم السلوكية للمجتمع المكي على الكل العربي باعتباره مجتمع واحد ونقلت بالتالي المجتمع العربي من مرحلة القبلية إلى المرحلة الثقافية، تحدثنا بعد ذلك عن مفهوم الاخر الضد والاخر المختلف داخل الرسالة، وراينا كيف ان الوعي المجتمعي نسبة لاستيعابه للذات فقط دون الاخر قد استوعب الرسالة من خلال قيمه السلوكية فقط، وبذا اصبح الاخر حتى يتم الاعتراف به وبانتماءه للرسالة ان يترك كل قيمه التي حافظت تاريخيا على مجتمعه وادت إلى تكامله ان يترك تلك القيم بل وان يحاربها كذلك باعتبارها بدعة وان يتحول إلى القيم العربية التاريخية.
اما مفهوم الاخر داخل الرسالة حسب استيعاب فلسفة التحولات الاجتماعية نجده ينقسم إلى اثنين إلى اخر انساني مختلف واخر ضد، فاما الاخر المختلف فهو كل اخر يختلف في الانتماء الجيني فهو اخر انساني يمتلك قيم تحولات تختلف عن مجتمع الذات، اما الاخر الضد فهو كل اخر يفرض ذاته وقيمه على الإنسان إذا كان من داخل المجتمع الجيني أو من خارجه، وعند قراءتنا للرسالة من تلك الزاوية نجدها قد امنت على حق الاختلاف الكامل للإنسانية مع المجتمع القرشي في مكة أو مع اليهود في المدينة، بل اوضحت دور الرسول ودور كل النخب الذي يتمثل داخل الإرشاد فقط وعلى المجتمعات ان تختار ما يناسبها (أي إذا رات النخب ان مجتمعها به قصور فعليها ان ترشده لتجاوز ذلك القصور وليس بالتحول إلى اوصياء على المجتمعات)، ولكن المجتمع المكي واليهود هم الذين تحولوا إلى اخر ضد للإرشاد، فالاذن للحرب ضد قريش جاءت بعد ان يئست قريش من عودة ابناءها إلى رشدهم كما تدعي وسعت إلى فنائهم (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40))، وكذلك الحرب على اليهود كان بعد نقضهم لوثيقة التعايش بينهم وبين الرسول واتباعه ومساعدتهم للمجتمع المكي لابادة محمد واتباعه. ومن هنا نجد ان ما يحدد الذات الاجتماعية هو الجين وليس السلوك كما تم تدوينه بعد ذلك في المفهوم التخيلي للمجتمع (المجتمع المسلم)، فكل من ينتمي للجين حسب مرحلة التحولات ينتمي للذات الاجتماعية وكل من لا ينتمي للجين هو عبارة عن اخر انساني مختلف، اما الاخر الضد فهو الاخر الذي يفرض ذاته وقيمه واستيعابه على الذات إذا كان من داخل المجتمع أو من خارجه.

ان الاختلاف بين المفاهيم والقيم والمعاني في الرسالة الإرشادية وفي الاستيعاب المجتمعي العربي كل ذلك فات على النخب السودانية التي كانت تسعي إلى ايجاد ذاتها ولكنها كانت تبدا من داخل التدوين العربي الذي يجعل الرسالة عبارة عن قيم خلاص محددة، ونحدد بالذكر محمود محمد طه فقد كان لقصور استيعاب ذلك الفرق بين المفاهيم والمعاني الإلهية والمفاهيم والقيم العربية في رؤيته الفكرية، ان تكون بدايته من داخل التدوين العربي والتسليم بما يدعيه ذلك التدوين من قيم إلهية مثل المصحف العثماني والعبادات والمعاملات، وقد كان مدخله لاستيعاب انسانيته السودانية من خلال الرسالة كان مدخله من خلال نقد تدوين المعاملات، وفي محاولته تلك لجا إلى اعتبار ان للإله رسالتين مختلفتين عن المعاملات في رسالة واحدة حتى يستوعب الرسالة وكذلك ذاته السودانية وقيمه، وذلك التسليم بالقيم الإلهية في المصحف العثماني والعبادات هو الذي مكن الذين يقولون بالتدوين العربي من الرد عليه وتكفيره، فالتدوين العربي قام على كلية لا يمكن تجزئتها، فاما نقدها كليتا أو التسليم بها كما هي. وكذلك محاولات حسن الترابي الحالية والذي ايضا كان مدخله لنقد ذلك التدوين من خلال المعاملات مع التسليم بالقيم الكلية المصحف العثماني والعبادات وجزء من المعاملات كقيم إلهية، ويلجا إلى اجزاء أخرى ولكن ايضا يمكن الرد عليه نسبة لتسليمه باجزاء من ذلك التدوين الذي يقود اما إلى التسليم بكل التدوين أو وصفه بالكافر (مفهوم القول بالراي في القران الكريم عند اتباع التدوين العربي)، فنقده الجزئي للكلية تلك مثل الحديث عن عذاب القبر أو وضع المراة إذا كان في الصلاة أو في زواجها من الكتابي أو غيره لا يؤدي إلى الا رفض مشروعه بالكامل ومن ثم توصيفه بالكفر.

وبذا يصبح الدين في فلسفة التحولات الاجتماعية ليس قيم خلاص سلوكية تعطي للإنسانية لانه في الحقيقة ليس هنالك قيمة سلوكية واحدة للكل الإنساني طوال التاريخ ولكن الدين يمثل ارشادات تؤدي إلى التوصل إلى معني الإنسانية الذي يتوافق مع مرحلة التحولات التي يمر بها المجتمع.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الرسالات الإرشادية بعيدا عن التدوين العربي (2)

من الانتفاضة إلى الثورة السودانية (1)